فيلمان عن جزائر اليوم: وحدة موضوع واختلاف سرد

18 ابريل 2018
من "السعداء" لصوفيا جاما (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
فيلمان جزائريان، أُنتجا عام 2017. فيهما بورجوازية صغيرة يُزعجها صعود التديّن، وتخطِّط لإرسال أبنائها إلى أوروبا للدراسة. فيهما طبيبان خارجان من الحرب الأهلية بندوبٍ في الروح، ويهمّهما إنقاذ مستقبلهما الشخصي. فيهما صراعُ أجيالٍ شرس، وشبان ممزّقون بين الحشيشة والهجرة. فيهما تطبيع مع الفساد، فلكلّ خدمة ثمن، ويتمّ الدفع نقدًا، أو في السرير. فساد مريع يتسرّب عبر الشقوق كلّها، ويتنفّسه الناس، ويتعايشون معه. لذا، فإن فكرة محاربته لا تخطر إلا على بال المجانين. صار الفساد جزءًا من الهواء الذي يتنفّسه الناس، ويزعمون أنهم لا يفهمون ما يجري في بلدهم.

يتشابه الفيلمان على صعيد المضمون، لكنهما يتناقضان على مستوى منطق السرد.

الأول بعنوان "طبيعة الحال" (113 د.) لكريم موساوي. يُقدِّم 3 قصص، كلّ واحدة منها تنتقل إلى الأخرى بسلاسة. شخصياتها تتوازى ولا تتلاقى، لكن بينها تشابهات كثيرة. 3 لقطات عامة عن الجزائر المعاصرة. قصص لا رابط سَبَبيّ بين خطوطها. سردٌ مفكّك، لأن المخرج يعتبر السرد الخطي تقليديًا، فيحاول ابتكار شكلٍ آخر له. الـ"كادراج" والإخراج جاذبان للمُشاهدة حتى نهاية الفيلم.

الفيلم غير تقليدي. يقدّم حساسية جديدة. يعرض شخصيات من دون تاريخ ومزاج وأفق واضح. شخصيات حديثة شبحية، لا تفعل شيئًا يبرّر للكاميرا أن تتبعها. هذه استعارة للمواطن السلبيّ جدًا. شخصيات تتدحرج مع الأيام، وهي متباعدة باردة يقدّم موساوي معلومات قليلة عنها. قصص مفكّكة، ينقذها تزامن الأحداث ووحدة المكان المقروء. طرقات، وضواحٍ ريفية تلتهمها عمارات جديدة، وفضاء داخلي منظّم جدًا، وآخر خارجي عشوائي وفوضوي، لكنه يتمدّد.
الثاني بعنوان "السعداء" (102 د.) لصوفيا جاما. سرده خطيّ. في النصف الأول إيقاع سرديّ رتيب، كأن تصوير شبانٍ يدخنّون لدقائق عدّة سيطوّر الحدث. شبانٌ تحتلّ الحشيشة موقعًا مركزيًا في حياتهم. تجري الأحداث في حيّز زمني ضيّق، وتركيب مُذهل من دون افتعال أو ضجيج: طالبة تتسكّع، لأن الدراسة في الجامعة متوقّفة بسبب الإضرابات؛ وشابٌ يملأ الفراغ بأوشام على جسده، ويرتّل آيات قرآنية مُركّزًا على "لكم دينكم ولي ديني".

تبدو الخيوط كلّها بين الآباء والأبناء مقطوعة. الجامع الوحيد هو الحشيشة. يُحشِّشون ويفتون بالحرام والحلال. حشيشة هذا العام جيّدة، وتساعد الملايين على النوم في شمال أفريقيا. في "السعداء"، يقدّم أمين (المغربي فوزي بنسعيدي) لضيوفه الإنتاج المغربي الذي يفشي السعادة، وذلك من أجل فرح أكبر.



في "طبيعة الحال"، كهلٌ في أسرة مفكّكة يدبّر مقاوِلة تدفع عمولات دورية. شابة حائرة بين حبيبها وزوج المستقبل. طبيب يطارده الماضي. هو لم يرتكب جريمة، لكنه شاهَدَ وسكَتَ. هو، عمليًا، بريء. في لحظة انبعاث الماضي الجماعي المؤلم، دخل الطبيب محلاً لشراء أثاثٍ لتجهيز مستقبله الفردي. يتزوج بطريقة تقليدية، بـ"طبيعة الحال". الحداثة مجرّد قشرة، هنا.
في "السعداء"، امرأة على أبواب الـ50. قلقة من برودة زوجها تجاهها. تشرب كأسين يذهبان بها إلى الجحيم. تكتشف أن لدى الشرطة تعليمات شفوية كي لا تعتقل المتبرجزين في حالة سكر. امتياز يخفي فسادًا وإهانة. الحريات موجودة، لكنها انتقائية، يمكن سحبها في أية لحظة.
التوقيف والعفو إهانة صغيرة أخرى تنتزع من الفرد كرامته، وتتركه حيًّا. جثة تمشي. اكتشفت المناضلة، بحركة صغيرة، أنها لا تساوي شيئًا من دون رجل يسوِّي المشاكل ويرشي ويتحمّل الإهانات. لذلك، يستحق قوانين تتيح للرجال بعض الامتيازات، وهو يهدّد باستخدامها.

هذه نظرة مخرِجَين فرنسيّين من أصل جزائري. أبناء الجيل الـ3 من المهاجرين يعودون إلى بلدان آبائهم لاستلهام مواضيع لأفلامهم. ينظرون إلى بلاد أجدادهم بقلق.

للفيلمين عنوانان: العنوان العربي لفيلم جاما هو "السعداء"، والفرنسي يناسب القدّيسين: "المباركون" (Les Bienheureux). لـ"طبيعة الحال" عنوان فرنسي أيضًا هو "في انتظار النوارس". العنوان العربي أنسب، لأن الشخصيات طبّعت مع واقعها واستسلمت له، ولا تنتظر نوارس الحرية. في الفيلمين، يلاحظ الناس ما حولهم باستسلام. طبعًا، لا مجال للتخطيط في حقل الفساد. يكفي انتظار قرار الجهة النافذة. التفسير الذي تقدّمه إحدى الشخصيات لضبابيتها هي احتمال إصابتها بسرطان المخ. كلّ شخص يعلن أنه يحاول فهم البلد. لا أحد يفهم. هذا طبيعي. يبدو أنه لفهم البلد، لا بدّ من تغيير برمجيات "جماجم" العائدين إلى الجزائر من فرنسا.

في الفيلمين، لحظات منتقاة من ليل الجزائر. بلد كبير بخير. لا ينقصه شيء. لكن، لا أفق للبشر. عادة، يتّهم مخرجو المهجر، أو من يحصلون على تمويلٍ لأفلامهم من الشمال، بتشويه صُوَر بلدانهم. هذا ممكن. لكن الأرقام تتكلّم: عام 2017، بلغت الجزائر المرتبة 115 في الترتيب العالمي الخاص بـ"مدركات الفساد"، الذي تعدّه "منظّمة الشفافية الدولية"، بينما كان ـ عام 2015 ـ في المرتبة الـ88. في 3 أعوام، تدهور البلد 27 مرتبة.

لم يخترع المخرجان، كريم موساوي وصوفيا جاما، الواقع، بل قارباه فنيًا ليُساعدا على فهم البلد.
المساهمون