فولتير والتعصّب: مساءلات متجدّدة

02 أكتوبر 2016
("وداعات كالاس وعائلته" لـ دانيال شودوفسكي)
+ الخط -

في خضمّ الصراعات الدينية التي عاشتها بلاده قبل قرابة ثلاثة قرون، ألّف الكاتب والفيلسوف الفرنسي، فرانسوا ماري أرويه، المعروف باسم فولتير (1694 - 1778)، كتاب "Traité sur la tolérance"، وترجمتُه الحرفية "أطروحة في التسامح"، في شكل رسائل موجّهة إلى بلده.

كان على قرّاء العربية انتظار قرنين ونصف من صدوره بالفرنسية عام 1763؛ حين ترجَمته السورية هنرييت عبودي بعنوان "رسالةٌ في التسامح" ("رابطة العقلانيين العرب" و"دار بترا"، 2009). ومؤخّراً، صدر العمل عن "المركز الثقافي العربي"، بترجمة جديدة أنجزها الكاتب والباحث المغربي سعيد بنكراد تحت عنوان "قول في التسامح".

لم يأت الكتاب من فراغ، ولم يكن مجرّد خطاب نظري ينزع نحو التجريد، بل تأسّس على الواقع الفرنسي خلال القرن الثامن العشر، واستند إلى وقائع حدثت في أماكن وأزمنة متعدّدة، وبعضها كان له أثر مدوٍّ؛ إذ كتب فولتير رسائله في أعقاب قضيّة قضائية جرت فصولها بين عامي 1761 و1762، وانتهت بإعدام مواطن فرنسي من الأقلّية البروتستانتية، يُدعى جان كالاس، اتُّهم مع جميع أفراد عائلته بقتل ابنه الذي كان يريد، حسب القضاة والسكّان الكاثوليك المتعصّبين في مدينة تولوز، التخلّي عن المذهب البروتستانتي واعتناق الكاثوليكية؛ حيثُ أُعدم الأب، وانتُزع ما تبقّى من أبنائه من أمّهم، وأُجبروا على دخول أحد الأديرة.

من هنا، يُعدّ فولتير، الذي تبنّى قضيّة كالاس ورأى فيها مثالاً واضحاً للاضطهاد الديني، أوّل كاتب فرنسي يُدلي بآرائه بشكل مباشر في "قضّية قضائية". وقد كان لرسائله تأثير واضح على الأوساط الفرنسية بمختلف مستوياتها؛ فبعد سنواتٍ قليلة، أعادت "المحكمة العليا"، في باريس، النظر، في القضية بأمرٍ من الملك، وتداولت حيثياتها وأصدرت قراراً جديداً يقضي بتبرئة الأب الذي مات بالتعذيب تحت العجلة، وإعادة الاعتبار لعائلته التي شُتّت شملها وصودرت ممتلكاتها وتعرّضت للتشريد.

يكثّف فولتير في كثير من الرسائل التي تضمّنها الكتاب، نقده للظاهرة الدينية المسيحية، كفكرة وتجربة كما شكلها الغرب، آنذاك، لافتاً إلى أن نزعة التعصّب طغت عليها بشدّة، داعياً إلى التأمّل والتعلّم من المجتمعات الأخرى غير الأوروبية التي كانت تنعم بالتسامح، وتساءل: "هل سنكون نحن آخر من يعتنق الأفكار السليمة التي تبنّتها الأمم الأخرى؟ لقد صحّحوا أخطاءهم: فمتى نصحّح أخطاءنا؟".

يشكّل الكتاب مرافعةً تاريخية من أجل التسامح والتآخي ونبذ العنف والتعصّب؛ إذ ما فتئ فولتير يدعو الفرنسيين، إلى أن يجعلوا من جميع الناس إخوةً لهم رغم اختلاف عقائدهم، مع إقراره بأن "التعصّب مسألة داخلية، ومرض متجذّر في أعماق الشعب الفرنسي"، كما ظلّ ينبّه، باستمرار، إلى ضرورة اختيار مسلك العقل للشفاء من داء التعصب الذي يصفه بأنه عدوٌ للعقل وطاردٌ له: "الوسيلة المثلى للتقليل من عدد المهووسين، إذا بقي منهم أحد، هي إخضاع هذا المرض الذهني إلى العقل الذي ينير الناس ببطء، ولكن بفعالية. إن هذا العقل معتدل، إنه إنساني، ويدعو إلى الرحمة، ويقلّص من حجم الخلاف ويرسّخ الفضيلة، ويحبّب طاعة القوانين، أكثر ممّا تقوم القوّة بذلك".

عكس سابقتها، تضمّنت الترجمة الجديدة مقدّمة للمترجم، تطرّق فيها إلى سياقات العمل وإمكانيات إسقاطه على الراهن الدولي، إذ يشير إلى أن التسامح الذي يناقشه فولتير، في رسائله، هو التسامح الديني تحديداً، والذي يرى بنكراد أنه بات اليوم "مبنيّاً على مبادئ القانون الإنساني الذي يعترف بحق الناس في التعدّد في العقائد والأفكار والرؤى وأنماط الوجود على الأرض، من دون أن يقود ذلك إلى المسّ بكرامة الناس وحريتهم، أو التضييق على قناعاتهم الدينية أو الإيديولوجية".

بالتأكيد، فإن الواقع الفرنسي، اليوم، يختلف عن ذلك الذي عاشته قبل ثلاثة قرون. لكن المؤكّد، أيضاً، أن قول فولتير في التسامح لا يزال ساري المفعول، وفرنسا مدعوّة اليوم، بإلحاحٍ، إلى إعادة قراءته، في وقت يتصاعد الخطاب المتعصّب ضدّ الأقلّيات التي تعيش في أوروبا، وتحديداً المواطنين من ذوي أصول عربية ومسلمة.

قد يقدّم الكتاب إجابةً لأسئلة تُطرَح اليوم في ظلّ تزايد خطابات العنصرية والكراهية وممارساتهما في فرنسا، خصوصاً أن ذلك لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة سياسات رسمية تطبّع مع "الإسلامفوبيا" تحت مبرّرات ومسمّيات مختلفة، كما أن آلة الدعاية اليمينية تُضفي على المشهد نوعاً من التعقيد باستهدافها للمسلمين الذين تصمهم بالإرهاب، متجاهلةً حقيقة الإسلام من جهة، وقيم العلمانية والمواطنة والتسامح من جهة أخرى.

بعضُ المقتطفات من رسائل فولتير ستبدو، على سبيل التجاوز، ردوداً مفحمةً على تصريحات ومواقف سياسية حالية، فإن كان الصحافي ورئيس بلدية بيزييه في باريس عن حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرّف، روبير مينار (مواليد وهران عام 1953)، مثلاً، يقول بالحرف: "أن تكون فرنسياً، يعني، أيضاً، مثلما قال الجنرال دوغول، أن تكون أوروبياً، أبيضَ كاثوليكياً"، فإن فولتير يردّ قائلاً: "ليس هناك بالتأكيد، أيّ مزيّة في اضطهاد أولئك الذين يختلفون معنا، ويوجب علينا كراهيتهم. هناك عبث في التعصّب ويجب أن ألاّ نملّ من تكرار ذلك"، و"لا يمكن أن نحكم فرنسا، بعد أن أضاء لها الطريق باسكال ونيكول وأرنولد وبوسيي وديكارت وغاساندي وبايل وفونتونيل، كما كانت تُحكم في زمن غراس ومونو"، في إشارة إلى الراهبين الأكثر تشدّداً إزاء رؤى التنوير.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سياقات متداخلة
إن كان فولتير قد كتب رسائله في سياق الصراعات الدينية داخل المجتمع الغربي المسيحي نفسه، فإن استعادته تأتي في سياق صراعٍ يأخذ، هذه المرّة أيضاً، طابعاً دينياً، لكن مع وضع الإسلام والمسلمين في الطرف الآخر من المعادلة. من هنا يستمدّ العمل راهنيّته في المشهد الفرنسي؛ وهي راهنية جعلت "قولٌ في التسامح" يتصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا بعد أحداث "شارلي إيبدو".


المساهمون