فن الأداء... علامات على عطب العالم

11 مارس 2020
بيوتور بافلينسكي (مارتين بورو -فرانس برس)
+ الخط -
يطرح فن الأداء سؤالاً على الشكل القائم. يتورّط فنان الأداء بجسده ضمن مكونات العالم الرمزية والماديّة في سبيل الكشف عن هشاشة النظام العام ومساحات الهيمنة فيه. أما الأثر الذي يتركه كل أداء أو فعل action، فيمتد في الزمن، ولا يقع فقط على جسد الفنان، بل يشمل المحيطين به، والفضاء الذي حصل فيه الأداء الذي يكشف عيوب الشكل القائم، والأهم، المسؤولين عن جعله بهذا الشكل من مؤسسات وكتل بشريّة تنتج هذا النظام العام.

مؤخراً، انتشر خبر عن فنان الأداء الألماني سايمون ويكرت، الذي قام بخداع خرائط غوغل عبر خلق الانطباع لدى التطبيق والمستخدمين بأن هناك زحمة مرورية، مُستخدماً 99 هاتفاً موضوعة في عربة قام بجرّها في أنحاء برلين، مخلخلاً بذلك بنية التطبيق، ومهدداً شكل الحركة والانتقال ضمن العاصمة الألمانيّة.
يكشف لنا هذا الأداء عن هشاشة علاقتنا مع المكان، واعتمادنا على مجموعة البيانات الكبيرة التي تحدد أسلوب حركتنا وانتقالنا في المدينة، التي يمكن التلاعب بها "بسهولة"، عبر لعبة بسيطة لا تثير الشبهة. الأهم أن الأداء يكشف لنا أيضاً عن نظام الهيمنة الذي تمارسه تطبيقات تتبع الحركة، وكيفية تحكمها بإدراكنا للمكان وخصائصه، فهي تخلق نسخة فائقة ووظيفية عن العالم، قائمة على بيانات يمكن التلاعب بها، ما يعني أن علينا التفكير في علاقتنا معها ومدى اعتمادنا عليها. صحيح أن الأمر في هذا الأداء يرتبط فقط بالزحمة المروريّة، لكنه ينسحب على التطبيقات الأخرى التي تستنزف بياناتنا وتجمعها وتصنفها، وتعيد تكوين ما نريد وما نرغب، خدمةً لشركات كبرى.
يجابه فن الأداء السلطة، ويكشف عن أولئك المسؤولين عن الهيمنة علينا ونفاقهم وخوفهم على مكانتهم. هذا ما نراه بدقة في أعمال الروسي واللاجئ في فرنسا بيوتور بافلينسكي، الذي سرّب مؤخراً فيديوهات خيانة زوجية لمرشح بلدية باريس، وذلك "لكشف خداعه ونفاقه حول الدفاع عن الأسرة"، ما اضطر المرشح إلى الانسحاب من الانتخابات الرسميّة. قبلها، أحرق بافلينسكي واجهة بنك فرنسا، والمثير للاهتمام في تجربة بافلينسكي أنه يواجه السلطة بجسده متحدياً الخطر ومتحملاً إياه، إذ يرى أن الشرطة هي الجهاز القمعي الأول، والمسؤولة عن تجريم الشعب، ويتعاون معها الطبّ النفسيّ من أجل خلق تهم يحتجز إثرها الأفراد عبر نزع أهليتهم، وهذا ما واجهه هو حين ثبت خصيتيه في أحد شوارع موسكو، وقبلها حين قطع أذنه وجلس على سور مبنى الأمراض النفسية في العاصمة الروسيّة، وإثرها اتهم بالجنون وبزعزعة الأمن العام، ما اضطره إلى اللجوء في فرنسا.
يورط فن الأداء المشاهدين والجمهور، الغافلين أو المتقصدين، في ما هو أشبه بفخ في بعض الأحيان، يكشف عن القوى التي تتحكم بحياتنا، كالعمل الذي أنجزته جيرالدين خواريز، إذ وضعت العلامة المائية الشهيرة gettyimages على مرايا الحمامات في أحد المعارض، لتشير إلى أن موزع الصور العالمي يأخذ في بعض الأحيان صوراً علنية للأشخاص ويتملكها من دون إذنهم، لكونها التقطت في الفضاء العام. هنا، تبرز الإشارة إلى خطورة العلنيّة، وتحول الخصوصية إلى وهم نظن أننا ندافع عنه، لكنه ليس إلى حكاية خرافيّة في ظل كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان والكاميرات الشخصيّة التي لا نعلم في الكثير من الأحيان أنها تلتقط صورنا.
الأسئلة التي يطرحها فن الأداء قد تبدو ساذجة، لكن أهميتها تكمن في أنها تشير إلى مجموعة القرارات والقوى التي تستثني وتشمل من أجل أن يكون ما حولنا يظهر بشكله القائم، فما فعله الفنان الألماني مثلاً أنه حدد لنا الأسلوب الذي تُضبط خلاله الحركة في المدينة، مجموعة من البيانات التي تسجّل ثم تعالج وتوزع على سائقي السيارات تدعوهم إلى تجنب مكان ما، الأمر الذي يبدو مفيداً وعملياً، لكنه يكشف عن الأثر المباشر للتكنولوجيا الحديثة، كالفضيحة التي لاحقت فيسبوك عندما جرى اختبار خوارزمية تسعى إلى التحكم بالحالة النفسية للمستخدمين عبر ضبط ما يرونه في أثناء تصفحهم للموقع الأزرق.
دلالات
المساهمون