فلسطين في عشرية عرفات
عقد كامل مَرَّ على الوفاة الغامضة للرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، والقضية الفلسطينية تتدهور أوضاعها، عاماً بعد عام. هذا لا يعني أن عرفات، رحمه الله، مُعفى من مسؤولية الأعطاب التي أصابت القضية الفلسطينية، ومسارها، بل على العكس، فهو يتحمّل قسطاً وافراً منها. ويكفي، هنا، أن نُذكّر بتفرّد وارتجال قراراته وجمعه شعثاً كبيراً من الأعوان والموظفين من حوله، الغث فيهم أكثر من السمين، وهو حين ضَعُفَ، ثمَّ قضى، انفلت كثير منهم من العقال الذي كان يلجمهم هو به، إلى حد ما، فأحدثوا مزيداً من التخريب في مسار القضية.
غير أن أحداث الساحة الفلسطينية في الذكرى العاشرة لرحيل الرجل، والخطر المحدق اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالحرم القدسي الشريف، بما في ذلك المسجد الأقصى المبارك، عبر المشروع المقترح صهيونياً لتقسيمه زمانياً ومكانياً، ومنهج ردّ القيادة الفلسطينية الرسمية، ممثلة بالرئيس محمود عباس، على ذلك، يدفعنا إلى عقد المقارنات بين الرجلين.
عندما أدرك عرفات، في مفاوضات "كامب ديفيد" عام 2000، أن ما تعرضه عليه إسرائيل، بالإضافة إلى قطاع غزة، هو ضفة غربية مقطّعة الأوصال، ومخصوم منها جُلُّ غور الأردن، وكثير من القدس الشرقية، والكتل الاستيطانية الكبرى، دع عنك إلغاء حق العودة عملياً، اللّهمّ إلا لبعض عشرات من الآلاف، فإنه تشدد في موقفه التفاوضي، ووقف، بصلابة، أمام ضغوط الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، حينئذ، إيهود باراك. حينها، تأكد لعرفات أن إسرائيل، حتى تحت قيادة اليسار، ليست في وارد تحقيق "سلام الشجعان" الذي حاول أن يقنع به نفسه، واهماً، وبأن الولايات المتحدة، إن لم تكن متواطئة، فإنها أضعف من أن تضغط على إسرائيل، وتلزمها بشيء.
يومها حاولت أنظمة عربية كثيرة أن تضغط على عرفات ليوقّع، بل إن كثيراً من فريق وفده التفاوضي نفسه، كما تروي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، في مذكراتها، ضغطوا عليه، ليقبل بالعرض الإسرائيلي ـ الأميركي، غير أن الرجل بقي مصرّاً على موقفه الرافض، وكان السبب الأبرز لموقفه ذاك يتمثل في رفضه قبول تقاسم السيادة على المسجد الأقصى المبارك، عبر صيغة أن للفلسطينيين السيادة على ما فوق السطح، ولإسرائيل ما تحته.
ومع اقتحام زعيم حزب الليكود المعارض حينئذ، أرييل شارون، للحرم الشريف في الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2000، تفجرت "انتفاضة الأقصى". لم يكن عرفات بعيداً عن قرار تفجير تلك الانتفاضة، ودعمها، غير أنه لم يكن في حساباته أن تخرج تلك الانتفاضة عن السيطرة وأن تدوم سنين. ما توخاه عرفات من تلك الانتفاضة هو الضغط على إسرائيل، للعودة إلى طاولة المفاوضات بشروط أفضل، لكن الرياح جاءت بما لم تشتهِ سفنه. فبعد أشهر قليلة من تفجر الانتفاضة، جاء شارون، بدمويته وشراسته المعروفتين، إلى رئاسة الوزراء، ولم يكد يمضي عام حتى وقعت هجمات سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك، وانطلاق "الحرب العالمية على الإرهاب".
النقطة، هنا، أن عرفات، وإن كان قد ربط مستقبله السياسي ورمزيته بعملية التسوية، إلا أنه لم يكن يتردد في محاولات الخروج على قواعد اللعبة مع إسرائيل لتحسينها، أو حتى تغييرها، إن رأى أنها تضر بالحد الأدنى الذي هيّأ نفسه لقبوله تفاوضياً. وما حصل في انتفاضة الأقصى أن بُعْدَيْنِ في شخصية عرفات اصطدما. فثمة البعد الرمزي لشخصيته، كرمز للنضال الفلسطيني وطموحاته، في مقابل البعد الآخر الذي استبطن البرغماتية الشديدة، بما حملته من تنازلات كارثية على صعيد القضية الفلسطينية. وعند وقوع ذلك الصدام، حاول عرفات أن يوفّق بينهما، لكنه لم يستطع، فنكهة رمزيته بقيت حاضرة، حتى في خضمّ برغماتيته، فكان أن انتهى به الحال "شهيداً"، في الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين الأول 2004، بقتل مباشر، أم جراء الحصار عليه في مقر المقاطعة في رام الله.
في المقابل، فإن عباس لا يعيش تناقضات في شخصيته، لتتصادم فيها، والرجل ليس له رمزية أبداً، وهو لم يَدّعِها يوماً، بل وتراه يمقتها أساساً. أيضاً، فإن عباس لم يشتهر بين الفلسطينيين بـ"نضاليته"، بل إن أمين سر حركة فتح السابق، والقيادي المخضرم فيها، فاروق القدومي، عندما أراد أن يُشَهّرَ بالرجل فإنه أشار إلى أن "ملابسه لم تتغبّر يوماً في خندق".
عباس لا يكف يعلنها، يوماً بعد يوم، أن لا خيار يعترف به، في سياق الصراع مع إسرائيل، إلا المفاوضات، وبأن خيار الانتفاضة خط أحمر، لن يسمح به أبداً ما دام حياً. والرجل بقي "مخلصاً" لهذا الخيار حتى والحرم القدسي يتعرض لعملية تهويد غير مسبوقة منذ احتلاله في حزيران/ يونيو 1967. حتى إغلاق سلطات الاحتلال للحرم الشريف في الثلاثين من الشهر الماضي، لأول مرة منذ احتلالها له، ومن ثمَّ دخول قواتها بأحذيتهم إلى المسجد القبلي، لم تحركا ساكناً فيه أبعد من الإدانات. ورغم أن طوابير المسؤولين الإسرائيليين، ومن عدة أحزاب، تدنّس الحرم الشريف يوماً بعد يوم، فإنه ما زال يرفض البحث في خيارات أخرى غير المفاوضات المتوقفة بسبب الاستيطان الإسرائيلي.
أبعد من ذلك، فإنه ورغم عمليات التهويد المستمرة للضفة الغربية والقدس المحتلتين، ورغم كل الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين.. إلخ، فإنك ما زلت تسمع، من قبل مسؤولي الاحتلال، مديحاً وتقريظاً لعباس وسلطته، على تعاونهما الأمني. وحسب عدد من المسؤولين الإسرائيليين، فإن السلطة الفلسطينية تتعاون معهم أمنياً في القدس وذلك حتى لا تتطور احتجاجات الفلسطينيين هناك على العدوان الإسرائيلي إلى انتفاضة. الأدهى من ذلك أن تسمع عباس نفسه يكابر بأن "التنسيق" الأمني الفلسطيني ـ الإسرائيلي لن يتوقف مهما كانت الظروف! كل ذلك يجري، وهو ما زال يرفض إتمام المصالحة مع الشقيق الفلسطيني في قطاع غزة، بل وتراه يساهم في تمتين الحصار على القطاع المنكوب وأهله.
نعم، لم يكن عرفات ملاكاً، وهو ارتكب أخطاء كارثية بحق قضية فلسطين، كما أنه دخل في لعبة المحاور العربية، ولكنه بقي يملك خاصية التمرّد، تأسيساً على ما آمن به من رمزية له، فعرفات كان زعيماً. أما عباس، فهو أشبه ما يكون بمدير متردد ومذعور حملته الظروف والصدف إلى قيادة شعب عرك المقاومة وعركته.