24 سبتمبر 2020
فلسطين بين النكبة والصفقة
مرّ 72 عاماً على نكبة فلسطين، الحدث التاريخي غير المسبوق، وهو إعلان قيام "دولة" بكل مقوماتها، من شعب وسلطة ومؤسسات وأرض، على أرض شعب آخر. تلك الدولة لم تقم من فراغ، ولكن الإعداد لها استغرق خمسين عاماً، منذ العام 1897، حيث انعقد المؤتمر اليهودي الأول في بازل، برئاسة تيودور هيرتزل، وتم فيه الاتفاق على إقامة الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، وتكوين المنظمة الصهيونية، الوكالة اليهودية، لتتولى الإشراف على تنفيذ ذلك الهدف. وحتى 29 نوڤمبر/ تشرين الثاني 1947، عندما صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين، وإعطاء اليهود حق إقامة وطن قومي لهم على قرابة 54% من أرض فلسطين التاريخية.
على مدى خمسين عاماً، منذ انعقاد المؤتمر اليهودي الأول في بازل وحتى صدور قرار التقسيم، جرت في المنطقة، وعلى أرض فلسطين، أحداثٌ جسام، أبرزها الحرب العالمية الأولى، وهزيمة دولة الخلافة العثمانية وتفككها، واتفاقية سايكس - بيكو بين بريطانيا وفرنسا لاقتسام النفوذ في المنطقة العربية بينهما، واحتلال بريطانيا كل فلسطين التاريخية، ووضعها تحت الانتداب البريطاني. والأهم، في ما يتعلق بفلسطين، هو عمليات الهجرة اليهودية واسعة النطاق إلى الأرض الفلسطينية، وحركة إقامة المستوطنات والمستعمرات والكيبوتزات، وأيضاً العصابات المسلحة بدعوى حراسة تلك المستوطنات وتأمينها. لم يقتصر الأمر على عملية الهجرات والاستيطان، ولكن جرت عملية منظمة لإقامة مؤسسات وهياكل، توفر مقومات إنشاء كيان دولة. وذلك كله بإشراف الوكالة اليهودية في فلسطين، وتحت رعاية سلطات الانتداب البريطاني.
وجاءت اللحظة التاريخية المرتقبة، عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، يوم 14 مايو/ أيار 1948، ولم يكن تاريخاً مفاجئاً، بل كان تاريخاً معلناً من قبل، وسبق أن أخطرت بريطانيا به الأمم المتحدة. وكانت الوكالة اليهودية قد أعدّت نفسها لتلك اللحظة، حيث أعلن مسؤول الوكالة في فلسطين، ديڤيد بن غوريون، قيام "دولة إسرائيل".
لم تمض دقائق معدودة على إذاعة بيان بن غوريون من تل أبيب، قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطينية، حتى توالت اعترافات الدول الكبرى بذلك الكيان، وفى مقدمتها الدولتان الأعظم
الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوڤييتي. في ذلك اليوم، 15 مايو/ أيار 1948، كان تعداد اليهود المستوطنين الذين قامت لهم دولة إسرائيل ما بين 500 و600 ألف صهيوني، قدموا إلى الأرض الفلسطينية، مهاجرين من شتى أنحاء العالم. وفي اليوم نفسه، كان هناك عدد قريب من ذلك العدد، من الفلسطينيين، أصحاب الأرض، يحملون على أكتافهم، ما استطاعوا من متاع بسيط، ويحتفظون بمفاتيح دورهم التي تركوها، تحت ضغط العصابات الصهيونية وترويعها، على أمل عودة قريبة إلى قراهم وبلداتهم، عندما تصل "الجيوش العربية" الزاحفة لطرد "العصابات الصهيونية" من الأراضي الفلسطينية.
ما جرى بعد ذلك هو ما شكّل ما اصطلحنا على تسميتها نكبة فلسطين. جاءت جيوش عربية إلى الأراضي الفلسطينية، ولكنها مُنيت بهزيمة مروّعة على يد العصابات الصهيونية. وبعد كَرّ وفرّ، انتهى الأمر بعقد اتفاقيات الهدنة بين كل من الدول العربية الرئيسية التي شاركت في الحرب، مصر والأردن وسورية، بالإضافة إلى لبنان باعتباره دولة جوار، ودولة إسرائيل، وكان ذلك أول اعتراف ضمني من دول الطوق العربية بوجود كيان جديد على أرض فلسطين بمسمّى دولة إسرائيل، على حدودٍ سمّيت خطوط الهدنة، تجاوزت فيها إسرائيل المساحة التي حدّدها لها قرار التقسيم.
هذا عن الحرب، أما عن الشعب الفلسطيني، خصوصاً قرابة الستمائة وخمسين ألفاً الذين حملوا متاعهم، ونزحوا عن قراهم وبلداتهم، يحتفظون بمفاتيح دورهم، في انتظار عودتهم، تحولوا إلى "لاجئين" فى عدد من دول الجوار، في مخيمات، وأنشأت لهم الأمم المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتي ما زالت قائمة. أما من بقي من الفلسطينيين على أرضهم، في المناطق التي قامت عليها دولة إسرائيل، فقد تحوّلوا مواطنين في تلك الدولة، وحملوا لقب عرب 48، ومن بقي في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، انتهى بهم الأمر إلى الوقوع تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967.
تلك هي نكبة فلسطين التي استمرت على مدى الأعوام الـ 72 الماضية، أرض تقطعت، وشعب تمزّق ، ومقدّرات أُهدرت، ومقدّسات تدنست. وعلى الرغم من ذلك، بقيت الهوية الفلسطينية وكلمة فلسطين تمثلان هاجساً لدولة الكيان الإسرائيلي وللمشروع الصهيوني. وللتخلص من هاجس كلمة فلسطين والهوية الفلسطينية، خرج علينا المشروع الصهيو أميركي، بمشروع جديد قد يُنهي ذلك الهاجس، وهو مشروع تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، بحيث لا يتبقى، لا أرض ولا شعب ولا هوية. وتم وضع وصف برّاق له، صفقة القرن. وهو يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: الأرض، بحيث لا يكون هناك مجال لوجود أرض متصلة، يمكن أن تُشكل وطناً للشعب
الفلسطيني، بداية بانتزاع جوهر الأرض الفلسطينية، وهي القدس، والتي أعلنت إسرائيل فرض السيادة عليها، وإعلانها موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، واعتراف ترامب بها ونقل السفارة الأميركية لها، وعلى الفلسطينيين أن يبحثوا لنفسهم عن مكان آخر، خارج القدس لإقامة عاصمة لهم. ثم يأتي المشروع الإسرائيلي بإعلان السيادة على منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، بامتداد حدود الضفة الغربية مع الأردن، وعلى مناطق المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما يعزل الضفة تماماً، ويحوّلها جزيرة منفصلة، ومحاصرة من جميع الاتجاهات، ويبقى قطاع غزة محاصراً، ومعزولاً عن الضفة الغربية. والأهم أنه لا يحق لتلك المناطق السيطرة على مجالها الجوي ومياهها الإقليمية والمعابر البرية. الركيزة الثانية، الشعب، فلا مجال للحديث عن اللاجئين، أو حق العودة. والسعي إلى تصفية وكالة غوث اللاجئين. وهكذا يتم التخلص من أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، ويبقى سكان الضفة الغربية في كانتونات منعزلة، محاطة بالمستوطنات اليهودية، ولا مجال لهم سوى التعامل مع تلك المستوطنات، أو مع داخل الخط الأخضر في إسرائيل. وهكذا تتآكل الهوية الفلسطينية بينما يبقى الفلسطينيون في قطاع غزة محاصرين تحت رحمة إسرائيل، والتنسيق الأمني في معبر رفح وكرم أبو سالم. الركيزة الثالثة، الهوية الفلسطينية. تعتمد الخطة على تمزيق الروابط الفلسطينية، ما بين أهل الضفة والقطاع واللاجئين وفلسطينيي الداخل، فإذا تمزّقت الروابط، ضاعت الهوية الفلسطينية.
على الرغم من ذلك كله ستبقى فلسطين، وستبقى الهوية الفلسطينية، وستبقى الأرض الفلسطينية، الهواجس التي تقلق مضاجع العدو الإسرائيلي، فإذا كان حجرٌ يلقيه صبيٌّ فلسطيني، وهو يرتدي كوفيته، على مستوطن صهيوني، يثير الذعر في نفوس من يدّعون أنهم يملكون أقوى جيوش المنطقة، فسيبقى الأمل حياً في وجدان ذلك الشعب، وهو يرفع شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وحق العودة، حتى لو بدا ذلك بعيد المنال .. فلتبقى كلمة فلسطين حية، ولتبقى الهوية الفلسطينية، ولو خارج أرض فلسطين.
وجاءت اللحظة التاريخية المرتقبة، عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، يوم 14 مايو/ أيار 1948، ولم يكن تاريخاً مفاجئاً، بل كان تاريخاً معلناً من قبل، وسبق أن أخطرت بريطانيا به الأمم المتحدة. وكانت الوكالة اليهودية قد أعدّت نفسها لتلك اللحظة، حيث أعلن مسؤول الوكالة في فلسطين، ديڤيد بن غوريون، قيام "دولة إسرائيل".
لم تمض دقائق معدودة على إذاعة بيان بن غوريون من تل أبيب، قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطينية، حتى توالت اعترافات الدول الكبرى بذلك الكيان، وفى مقدمتها الدولتان الأعظم
ما جرى بعد ذلك هو ما شكّل ما اصطلحنا على تسميتها نكبة فلسطين. جاءت جيوش عربية إلى الأراضي الفلسطينية، ولكنها مُنيت بهزيمة مروّعة على يد العصابات الصهيونية. وبعد كَرّ وفرّ، انتهى الأمر بعقد اتفاقيات الهدنة بين كل من الدول العربية الرئيسية التي شاركت في الحرب، مصر والأردن وسورية، بالإضافة إلى لبنان باعتباره دولة جوار، ودولة إسرائيل، وكان ذلك أول اعتراف ضمني من دول الطوق العربية بوجود كيان جديد على أرض فلسطين بمسمّى دولة إسرائيل، على حدودٍ سمّيت خطوط الهدنة، تجاوزت فيها إسرائيل المساحة التي حدّدها لها قرار التقسيم.
هذا عن الحرب، أما عن الشعب الفلسطيني، خصوصاً قرابة الستمائة وخمسين ألفاً الذين حملوا متاعهم، ونزحوا عن قراهم وبلداتهم، يحتفظون بمفاتيح دورهم، في انتظار عودتهم، تحولوا إلى "لاجئين" فى عدد من دول الجوار، في مخيمات، وأنشأت لهم الأمم المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والتي ما زالت قائمة. أما من بقي من الفلسطينيين على أرضهم، في المناطق التي قامت عليها دولة إسرائيل، فقد تحوّلوا مواطنين في تلك الدولة، وحملوا لقب عرب 48، ومن بقي في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، انتهى بهم الأمر إلى الوقوع تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967.
تلك هي نكبة فلسطين التي استمرت على مدى الأعوام الـ 72 الماضية، أرض تقطعت، وشعب تمزّق ، ومقدّرات أُهدرت، ومقدّسات تدنست. وعلى الرغم من ذلك، بقيت الهوية الفلسطينية وكلمة فلسطين تمثلان هاجساً لدولة الكيان الإسرائيلي وللمشروع الصهيوني. وللتخلص من هاجس كلمة فلسطين والهوية الفلسطينية، خرج علينا المشروع الصهيو أميركي، بمشروع جديد قد يُنهي ذلك الهاجس، وهو مشروع تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، بحيث لا يتبقى، لا أرض ولا شعب ولا هوية. وتم وضع وصف برّاق له، صفقة القرن. وهو يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: الأرض، بحيث لا يكون هناك مجال لوجود أرض متصلة، يمكن أن تُشكل وطناً للشعب
على الرغم من ذلك كله ستبقى فلسطين، وستبقى الهوية الفلسطينية، وستبقى الأرض الفلسطينية، الهواجس التي تقلق مضاجع العدو الإسرائيلي، فإذا كان حجرٌ يلقيه صبيٌّ فلسطيني، وهو يرتدي كوفيته، على مستوطن صهيوني، يثير الذعر في نفوس من يدّعون أنهم يملكون أقوى جيوش المنطقة، فسيبقى الأمل حياً في وجدان ذلك الشعب، وهو يرفع شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وحق العودة، حتى لو بدا ذلك بعيد المنال .. فلتبقى كلمة فلسطين حية، ولتبقى الهوية الفلسطينية، ولو خارج أرض فلسطين.