لجوء الفلسطينيين إلى لبنان وسكنهم فيه، على تحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس بخافٍ على أحد. لكن من الوقائع المجهولة، ربّما، أن عدداً من الفلسطينيين الذين لجأوا عقب نكبة 1948 إلى لبنان وعاشوا فيه، هم من الأرمن. "العربي الجديد" يسلّط الضوء على هذه الفئة التي عانت عبء التهجير مرّتين، مرة لأنهم أرمن، ومرة أخرى لأنهم من فلسطين.
فلسطينيّو الأصل
مدير عام "مركز دراسات الشتات الأرميني" في جامعة هايغزيان، الدكتور أنترانيغ دركسيان يوضّح أنّ الأرمن تواجدوا في فلسطين منذ عام 400 للميلاد، وتراوح عددهم آنذاك بين ألفين وثلاثة آلاف نسمة، وكانت لهم كنائسهم وأديرتهم ومدارسهم. بعد مجازر عام 1915، قصد قسم من الأرمن المهجّرين فلسطين، ليصبح عددهم الإجمالي عام 1920، نحو عشرين ألف نسمة. وفي أثناء النكبة الفلسطينيّة هُجّر عدد من الفلسطينيين الأرمن من حيفا ويافا، وانتقلوا إلى الضفّة الغربيّة ومنها إلى الأردن ولبنان حيث توزّعوا، بحسب دركسيان، على مناطق اللبنانيين الأرمن، مثل مار مخايل، انطلياس، برج حمود، الكرنتينا وزحلة. منهم من عاد وهاجر الى الولايات المتحدة وأوروبا، فيما اندمج البقية مع الأرمن اللبنانيين وانضموا الى أحزابهم ومنظماتهم وجمعياتهم، وتعلّموا في مدارسهم.
يقول دركسيان إنّ عدد الفلسطينيين الأرمن في لبنان يبلغ نحو 1500 شخص، لكن الإحصاءات الرسمية غير متوفرة، حتى أن المتحدثة باسم الأنروا في لبنان زيزات داركزلّي استغربت وجود فلسطينيين أرمن في لبنان، وأوضحت في حديث إلى "العربي الجديد" أن المنظّمة تسجّل اللاجئين لديها بحسب هويتهم، وليس وفق طائفتهم، مؤكّدة أنّها لا تعرف حتى أماكن تواجدهم، معتبرة أنّ كل الفلسطينيين يسكنون في المخيّمات.
بعد استقرارهم في لبنان، عانى الفلسطينيون الأرمن من الخوف والحرمان والتهميش، خصوصاً خلال الحرب الأهلية، ولم يشفع لهم انتماؤهم إلى طائفة مسيحية، تؤكد آني، وهي فلسطينية أرمينية ولدت في لبنان بعدما هُجّرت عائلتها من فلسطين عام 1948.
إخفاء الهويّة
تتذكر آني كيف كان والدها أثناء الحرب يعمل في "المنطقة الغربيّة" في حين كانت العائلة تسكن الأشرفيّة في "المنطقة الشرقية"، وكيف اضطروا إلى أن يخفوا هويتهم الفلسطينية عن جميع سكّان المبنى، فكانوا بالنسبة لهم عائلة أرمنية فقط، خصوصاً أن جيرانهم كانوا ينتمون إلى أحزاب لبنانيّة مسيحيّة. تقول آني: "كان جارنا من الأشخاص الذين يذبحون الفلسطينيّين، لكن جمعتنا به علاقة طيّبة وساعد والدي في التنقّل إلى عمله لأنّه لم يكن يعلم بهويّتنا". تضيف: "كنت في السابعة من عمري، عندما رأيت كيف كان عناصر الحزب يذبحون الفلسطينيّين ويربطونهم بالسيارات لافّين بهم شواراع المنطقة. كنا نخاف دائماً على والدي بحكم موقع عمله، وقد خُطف مرّات عدة".
صراع بين حقّيْ الاعتراف والعودة
تتأرجح هويّة آني بين حق اعتراف القتلة بالمجزرة الأرمنيّة وحق العودة إلى فلسطين، الأمر الذي أثار فضولها إلى معرفة تاريخ لبنان وفلسطين وأرمينيا السياسي، وكان سبباً في اختيار مجالها الجامعي مرشدة اجتماعيّة. هذا الصراع وهذه الصدمات جعلتها تغوص في مشاكل المجتمع ومساعدة ومعالجة الأشخاص الذين يعيشون صدمات وصراعات توارثوها من الأجيال السابقة، ولا ذنب لهم فيها. جالت مخيم نهر البارد والبداوي وعين الحلوة، وعاشت مشاكل اللاجئين وحاولت مساعدة الأطفال لتخطّي آلامهم. في إحدى المرّات، أثناء زيارتها إلى مخيّم البداوي تعرّضت آني للخطر، فاضطرّت للتعريف عن جنسيّتها لحماية نفسها.
معاناة وفخر الانتماء إلى فلسطين
تؤكد آني أن أصلها الفلسطيني زاد من ثقل الأعباء على عائلتها، فوالدها لم يستطع تأسيس عمل أو شراء منزل، وفضّل أخوها السفر إلى كندا للحصول على جنسيّة تؤمن له العيش بكرامة. أمّا هي، على الرغم من كل المعاناة، استطاعت من خلال عملها أخذ الأمور بمنحى ايجابي ونمت بداخلها شخصيّة إنسانية منفتحة، بعيدة عن العنصريّة، والتعصّب والحقد. نالت آني الجنسيّة اللبنانيّة بعد مرور خمس سنوات على زواجها من لبناني -بعد سيْل من الإجراءات والتحقيقات والمماطلة في أوراقها القانونيّة- وذلك خلافاً لوالدها الذي لم يسع الى الحصول على الجنسيّة اللبنانيّة أملاً بالعودة إلى فلسطين.
على الرغم من ذلك، تفخر بجذورها الفلسطينية، وتشعر بالألم نتيجة ما يحصل اليوم في غزّة، كما لا تزال تؤمن بالثورة لاستعادة الأرض، وتحلم بزيارة فلسطين لرؤية كل ما حملت في ذاكرتها من القصص التي أخبرها إيّاها والدها وجدتّها وأمّها عن هذا البلد، عن الطعام والأعمال والجامعات وشواطئ البحر الجميلة.
هاجس الهوية
الشعور بالألم، جرّاء الأوضاع في غزة، يعصر قلب بيتر -وهو فلسطيني أرمني ولد في لبنان ويعيش فيه- لأنه يذكرّه بتاريخ حزين اختبرته عائلته وأخبرته عنه، لكنه لا يشعر بالانتماء الى فلسطين أو يحنّ إليها، ولا يحلم بالعودة كما فعل والده وجدّه اللذان ولدا في فلسطين وترعرعا هناك. هُجِّرت عائلة بيتر من مدينة حيفا أثناء النكبة الفلسطينيّة إلى لبنان بحراً، ووصلت إلى منطقة الناقورة جنوب لبنان, بعدها انتقلت إلى منطقة الكرنتينا في بيروت. يتذكّر في حديثه إلى "العربي الجديد" أنّه عندما كان صغيراً سأل جدّه لماذا لا يملكون الجنسيّة اللبنانيّة، فأجابه: "لا نريدها لأنّنا سنعود إلى فلسطين". هذا الجواب سمعه مجدداً من والده، لكنه يؤكد أن "الوضع اليوم تغيّر".
يعود بيتر بذاكرته إلى الحرب اللبنانيّة، ويقول: "لم يكن بإمكاننا التنقّل بين المنطقة الغربيّة والشرقيّة، فالجميع يعلم أنّ حياة الفلسطيني معرّضة للخطر مهما كان دينه. كنّا على تواصل مع مخيّم صبرا وشاتيلا لهدف واحد فقط، وهو الاستشفاء، إذ لم يكن باستطاعتنا دخول المستشفيات اللبنانيّة".
أضاف: "كنت أخاف دائماً أن يسألني أحد عن هويتي. وما زلت حتى اليوم أقول فقط إنني أرمني، والجميع يلاحظ ذلك من خلال لَكْنتي، لذا لا داعي للتعريف".
بيئة حاضنة ووجود قانوني
على الرغم من الظروف الصعبة، بقي بيتر في لبنان لأنه أحبّ البلد ولأن جميع أقاربه فيه. تابع قائلاً: "اختلطنا بالأرمن اللبنانيين. سكنّا بينهم وتعلّمنا في مدارسهم وعملنا في مصالحهم وأصبحت لدينا عادات وتقاليد لبنانيّة". أضاف: "بقينا هنا. عوضاً عن الحصول على الجنسيّة اللبنانيّة، حصلنا من منظمة أنروا، بعد تسجيلنا رسميّاً فيها، على وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين تؤكّد أن وجودنا داخل الأراضي اللبنانيّة قانوني، وتمكنّنا من التنقّل. كما تخوّلنا البطاقة الحصول من المنظمة على مساعدات غذائية وأدوية".
لم تمنع العوائق القانونية بيتر من الزواج، وما خشي من أن يورّط أولاده بالعيش في بلد من دون هويّة، فقد سجّلهم بنفس الطريقة التي اعتمدتها عائلته قبله، من خلال الحصول على وثيقة سفر من الدولة اللبنانيّة.
لا حلم بالعودة
على الرغم من أنّ عمّة بيتر لا تزال في فلسطين ويتواصلون معها هاتفياً حين تسافر إلى قبرص، لأنّهم يخافون من الاتصال بها من لبنان إلى فلسطين المحتلّة، إلاّ أنّه لا يشعر بالانتماء أو الحنين وحلم العودة.
يحمل في مشاعره الأسى لما يحصل اليوم في غزّة، فهذا المشهد الإجرامي يعود به إلى التاريخ الذي أخبرته عنه عائلته، أي النكبتيْن اللتيْن قهرتهم، وكانت السبب بتهجيرهم الأول من أرمينيا والثاني من فلسطين.
المطالبة بحقوق مدنيّة
معاناة الفلسطينيين الأرمن في لبنان لم تتوقف مع انتهاء الحرب الأهلية، فهم، كما يؤكد النائب الأرمني في البرلمان اللبناني شانت جنجنيان لـ"العربي الجديد" لا يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية، شأنهم شأن بقية الفلسطينيين في لبنان. أشار النائب جنجنيان إلى أنّ هناك بعض العائلات في منطقة زحلة، مؤكّداً أنّه سعى العام الماضي للمطالبة بحصول اللاجئين الفلسطينيين على حقوقهم المدنية الأساسية.
"يعمل قسم منهم في وظائف بأسماء مستعارة"، يقول جنجنيان، مذكّراً أنّ الفلسطيني في لبنان مستثنى من بعض المهن والاختصاصات، كالطب والهندسة والمحاماة، "لذلك فإنّ عمله محصور في بيئة ومهن معيّنة"، مشدداً على تعاطفه التام مع خوفهم ومعاناتهم، إلاّ أنّه كمسؤول لبناني لا يمكنه خرق القوانين لتحسين حياتهم، متمنيّاً لهم العيش بكرامة وعزّة نفس.
فلسطينيو لبنان الأرمن عاشوا تاريخاً مريراً اتسم بالعنف والتهجير والقلق، وعلّمتهم التجربة ربما ألا يطمئنوا إلى أحد. ناهيك ظروفهم الحالية، فإن عدم رغبة من قابلهم "العربي الجديد" في الإفصاح عن أسمائهم كاملة، إنما يشكل دليلاً على أن الخوف لا يزال ماثلاً في نفوسهم حتى اليوم، بعد انقضاء عشرين سنة على نهاية الحرب الأهلية.