"المنفى هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. وأياً كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد"، من "ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى"، إدوارد سعيد.
كثيرة هي الأعمال الأدبية والفكرية التي تناولت فكرة المنفى في الحالة الفلسطينية. فعلى مدار ثمانية وستين عاما من عمر الفلسطينيين، احتل موضوع النفي والاغتراب والشتات مكانة مهمة في أدبيات القضية الفلسطينية التي أخذت على عاتقها مهمة سرد وتحليل وتوثيق الحدث الكارثي المتمثل بسقوط فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وضياع الوطن وتشتت أهله في شتى بقاع الأرض. وعلى الرغم من كثافة هذا المنتج الفكري والأدبي المتعدد اللغات، لكنه بقي في مجمله رهين الارتباط بالحدث السياسي التنظيري الذي صبغ جل الإنتاج المعبر عن القضية الفلسطينية كتابيا كان أم بصريا. المميز في هذه الإنتاجات هو عمليا تحييدها القصة الإنسانية الشخصية وابتعادها عن سردية التجارب الفردية للأشخاص الذين عاصروا الحدث وما زالوا يعايشونه، وذلك لتأصل فكرة الشمولية والتعميمية لدى الكثير من الكتاب والأدباء والفنانين الفلسطينيين في أسلوب التعبير لديهم، فقد تأثروا بلا شك بطبيعة وأسلوب التنظير السياسي للقضية الذي تبنته الحركة التحررية الوطنية، التي كانت وما زالت تنظر للفعل المقاوم للاحتلال على أنه فعل شعبوي يتطلب تعبئة عامة على حساب تهميش التعبيرية الفردية.
في المقابل جزء قليل من الإنتاج الأدبي غرد خارج السرب وركز على التجارب الشخصية في عرضه وتقديمه القضية وتداعيات المأساة، بل من النادر أن نقع على منتج أدبي أو بصري فلسطيني ابتعد بقصد عن تسييس السرد وربطه بالحدث السياسي الفلسطيني، أو حتى ارتكز على تجربة شخصية عاشها الكاتب.
اقــرأ أيضاً
من هنا تأتي استثنائية كتاب "أن تكون فلسطينياً: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات" للأكاديمي والباحث الفلسطيني ياسر سليمان. الطريقة التي حرر بها الكتاب تأخذ القارئ إلى عوالم المنفى والشتات الفلسطيني عبر أسلوب ممتع يبتعد عن الملل والتكرار في السرد، من خلال اكتشاف معانٍ ربما لم تكن تخطر بباله عن فلسطين وعن علاقة الفلسطيني بوطنه وهويته، تأتي هذه المعاني كتأملات من جانب فلسطينيي الشتات ومن تجاربهم الشخصية وقصصهم وأحاسيسهم.
أن تكون فلسطينياً في الشتات
فكرة الكتاب غير اعتيادية، فهي تعتمد بالدرجة الأولى على التجربة الشخصية للمؤلف في بحثه الشخصي عن معنى فلسطينيته وهويته في فضاءات المنفى المتعدد جغرافيا، الذي يعيشه ويعايشه سليمان منذ ما يزيد على ربع قرن. في مقدمة الكتاب الثرية يتطرق سليمان لفكرة (المؤقت)، في حياته، وهي فكرة تجتاحه في لحظة معينة عندما تحط رحاله في مدينة كامبريدج الإنجليزية للعمل في جامعتها العريقة، معتقدا أنه قد وصل إلى حالة الاستقرار المكاني التي كان يبحث عنها منذ أن غادر مدينته الأم القدس، فيجتاحه التساؤل عن إحساسه بعدم الاستقرار، وعن معنى أن تكون فلسطينيا في الشتات.
مما لا شك فيه أن الإجابة على تساؤل الهوية يعد من أكثر التساؤلات تعقيدا لدى الفلسطيني، أياً كان مكان وجوده. كون البناء الطبيعي لأي هوية وطنية، جمعية كانت أم فردية، ضمن حدود المكان والزمان المحددين (بالوطن) لا ينطبق على الحالة الفلسطينية، فمحددات بناء الهوية تلك انهارت مع سقوط الوطن تحت الاحتلال في عام 1948 وتبعثرت مع تشتت أهله في كافة بقاع الأرض.
ماذا يعنى أن تكون فلسطينيا؟ تساؤل طرحه سليمان على نفسه في لحظة محاولة اكتشاف الذات المغتربة والمحملة بالكثير من التساؤلات عن الهوية، ومعنى الوطن وكيفية التعايش مع الاغتراب. وللبحث عن الإجابة لم يفلت سليمان هذا السؤال الصعب في عوالم الشتات الفلسطيني، بل توجه به إلى أكثر من مئة مغترب فلسطيني موزعين على امتداد جغرافيا العالم مانحا الفرصة لهؤلاء المغتربين متعددي الاهتمامات والجنسيات والخلفيات الدينية، ودافعا إياهم ليتحرروا من السياسة والصراع، والنظر بل التعبير عن مكامن أحاسيسهم الشخصية وعن أنفسهم وهويتهم واغترابهم. وعليه خرج الكتاب بمئة واثنتين من القصص والمواقف والأحاسيس والتبريرات والتأملات حول كينونة هؤلاء الأشخاص الفلسطينيين في شتاتهم.
الاستثنائي هنا في كتاب سليمان هو إعطاؤه للمعنيين كـ "فلسطينيين مغتربين" الحق في سرد أنفسهم وإرهاصاتها ومعانيها تجاه هويتهم ووطنهم المفقود، وهذا ما لم نشهده سابقا لدى الكثير من الكتاب الذين نصبوا أنفسهم محللين ومتحدثين ومنظّرين لفلسطينيي الشتات من دون الالتفات إلى الأشخاص المعنيين أنفسهم بواقعهم. حيث يتبادر إلى ذهن المَنفي سؤال مُلح، هل المنفى وطن جديد أم إعادة بناء وصياغة للوطن المفقود؟
وربما الإجابة عن هذه الأسئلة لدى فلسطينيي الشتات، هي الاثنان معاً، مع اختلافات بسيطة تبعاً لطبيعة المنفى ومدى جاهزية المنفي للتعايش معه وفهمه وإدراك معالمه. مع اتساع وتنوع الرقعة الجغرافية للمنفى التي توزع فيها الفلسطيني، إذ تنوعت شخصياته وتعددت تمثيلاته وآراؤه عن فلسطينيته. وإن كانت فلسطين المفقودة هي العامل الأكبر في تشكيل الذات المغتربة، فالمنفى كان شريكاً فاعلاً في هذا التشكيل الذاتي وطبيعته، فكلاهما لعب دورا تبادُليا في الإجابة عن تساؤل سليمان.
لم يتبع اختيار سليمان شخصيات كتابه لأي نهج محدد بل جميعهم أتوا متنوعي الخلفيات والاهتمامات والخبرات والأماكن، هم فلسطينيون عاديون يعيشون في الشتات، كل لديه حياته وعمله وفضاؤه الخاص به، تجمعهم فقط فلسطينيتهم. فمنهم الكتاب والشعراء والفنانون والأطباء والأساتذة الجامعيون والمبرمجون والمسرحيون والصحافيون والمهندسون والباحثون وموظفو الهيئات الدولية والحقوقيون وغيرهم الكثير من ذوي الاختصاصات والمعرفة. هم النسيج المنطقي للشتات الفلسطيني الذي تعددت اهتماماته وتنوعت قصص نجاحاته في غربته.
اقــرأ أيضاً
وبقراءة مستوفية لتأملاتهم نجد أن كلا منهم اختار عنوانا يختزل بصورة فذة رؤيته حول فلسطينيته، فعلى سبيل المثال وليس الحصر تقفز عناوين مثل "البحث عن وطن"، "فالداخل كدخيل"، "لا مساحة في حقيبتي"، "في البحث عن لغة توافقية"، "أكل فلسطين المحرمة"، "جنة لا يمكن إعادة خلقها"، "في الغبار"، "أن تكون لا أحد".
يمكن اعتبار هذا الكتاب إلى حد ما بحثا غير مباشر في سيكولوجيا الشتات، ومعنى المكان، وإعادة الموضعة أو التموضع بالنسبة لفلسطينيي الشتات أو حتى للمنفى بشكل عام، فمعنى المكان حاضر بصورة غير معلنة في كيان كل الذين سردوا تأملاتهم كما جاء في بعض عناوين الكتاب "مقيم في المكانين، وليس مواطناً في أيهما"، "خسارة أمام الجغرافيا"، "انتماء"، "إلى أين الآن".
فالمكان كمساحة ثبات حتى ولو مؤقتة يُمثل لدى الفلسطيني أحد المُقومات الرئيسية لبناء الذات حسب الإمكانات المتاحة لديه والممنوحة له من المكان الذي يعيش فيه. فعلى مدار العقود الطويلة وجد الفلسطينيون أنفسهم يعيشون حالة اللامكان الخاص بهم على وجه الأرض، وحاولوا جاهدين بناء بدائل لذلك المكان غير الموجود، لتكون بمثابة ارتكازات تعويضية يستطيعون أن يعتمدوا عليها أينما كانوا.
تمثلت تلك البدائل بعدد من العناصر التي لها علاقة بالمكان المتاح وطبيعة سكانه وبالفلسطيني المغترب القادم إليه. بحيث توافقت تلك العناصر مع بعضها بعضا لتكون الإرث والكيان الذي يجعل للوجود الفلسطيني معنى ويتغلب على اللامكان لديه بحيث أضحت تلك العناصر هي المكان والملاذ بمعناه المعنوي في الغالب والحسي في بعض الأحيان وجعلت من وجود المكان الحسي مسألة ثانوية لدى الفلسطيني الذي كان دائماً يشعر بحالة عدم استقرار في أي مكان يعيش فيه، وذلك ليس لعدم وجود رغبة لديه في ذلك، بل لعدم وجود ثقة في المكان المعاش بأن يسمح للفلسطيني أن يعيش فيه على الأمد الطويل. لذلك كان التعليم واكتساب المعرفة في شتى فروعها وتطوير الخبرة أهم المقومات التي اعتمد عليها الفلسطينيون في خدمة أنفسهم والتغلب على مأساة غياب الوطن الذي استبدل في الكثير من الحالات بسلسلة من التنقلات في أماكن متعددة، لذلك فتح العلم أمام الفلسطينيين الكثير من حدود الدول التي كانت موصدة معظم الأحيان في وجوههم.
في النهاية، يجب أن لا نغفل أن سلسلة التنقل المكاني المؤقت التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون حتى اللحظة، جعلتهم أناسا متأقلمين من الدرجة الأولى. يبنون فكرة وطنهم إلى حد ما في المكان الذي أجبروا على القبول به أو منحهم الفرصة ليعيشوا فيه. عملياً أينما يوجد الفلسطينيون فهم يأخذون تفاصيل الأماكن التي يعيشونها ويحملونها معهم أينما تنقلوا. عملية التنقل من مكان إلى آخر وحمل تفاصيل هذه الأمكنة، منحتهم نوعاً من التهذيب والترويض للإحساس الجارح للغربة. من زاوية أخرى فإن امتداد البقعة الجغرافية مع هذا التنقل، والذي هو امتداد لغربة غير محسوسة، ولَّدت بدورها لديهم شعورا ما بامتداد هذا النفي إلى الأبد، وأن هذه الحالة الاغترابية ممتدة بدون حدود أو نهاية.
(مؤرخ فني وأكاديمي فلسطيني)
اقــرأ أيضاً
كثيرة هي الأعمال الأدبية والفكرية التي تناولت فكرة المنفى في الحالة الفلسطينية. فعلى مدار ثمانية وستين عاما من عمر الفلسطينيين، احتل موضوع النفي والاغتراب والشتات مكانة مهمة في أدبيات القضية الفلسطينية التي أخذت على عاتقها مهمة سرد وتحليل وتوثيق الحدث الكارثي المتمثل بسقوط فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وضياع الوطن وتشتت أهله في شتى بقاع الأرض. وعلى الرغم من كثافة هذا المنتج الفكري والأدبي المتعدد اللغات، لكنه بقي في مجمله رهين الارتباط بالحدث السياسي التنظيري الذي صبغ جل الإنتاج المعبر عن القضية الفلسطينية كتابيا كان أم بصريا. المميز في هذه الإنتاجات هو عمليا تحييدها القصة الإنسانية الشخصية وابتعادها عن سردية التجارب الفردية للأشخاص الذين عاصروا الحدث وما زالوا يعايشونه، وذلك لتأصل فكرة الشمولية والتعميمية لدى الكثير من الكتاب والأدباء والفنانين الفلسطينيين في أسلوب التعبير لديهم، فقد تأثروا بلا شك بطبيعة وأسلوب التنظير السياسي للقضية الذي تبنته الحركة التحررية الوطنية، التي كانت وما زالت تنظر للفعل المقاوم للاحتلال على أنه فعل شعبوي يتطلب تعبئة عامة على حساب تهميش التعبيرية الفردية.
في المقابل جزء قليل من الإنتاج الأدبي غرد خارج السرب وركز على التجارب الشخصية في عرضه وتقديمه القضية وتداعيات المأساة، بل من النادر أن نقع على منتج أدبي أو بصري فلسطيني ابتعد بقصد عن تسييس السرد وربطه بالحدث السياسي الفلسطيني، أو حتى ارتكز على تجربة شخصية عاشها الكاتب.
من هنا تأتي استثنائية كتاب "أن تكون فلسطينياً: تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية في الشتات" للأكاديمي والباحث الفلسطيني ياسر سليمان. الطريقة التي حرر بها الكتاب تأخذ القارئ إلى عوالم المنفى والشتات الفلسطيني عبر أسلوب ممتع يبتعد عن الملل والتكرار في السرد، من خلال اكتشاف معانٍ ربما لم تكن تخطر بباله عن فلسطين وعن علاقة الفلسطيني بوطنه وهويته، تأتي هذه المعاني كتأملات من جانب فلسطينيي الشتات ومن تجاربهم الشخصية وقصصهم وأحاسيسهم.
أن تكون فلسطينياً في الشتات
فكرة الكتاب غير اعتيادية، فهي تعتمد بالدرجة الأولى على التجربة الشخصية للمؤلف في بحثه الشخصي عن معنى فلسطينيته وهويته في فضاءات المنفى المتعدد جغرافيا، الذي يعيشه ويعايشه سليمان منذ ما يزيد على ربع قرن. في مقدمة الكتاب الثرية يتطرق سليمان لفكرة (المؤقت)، في حياته، وهي فكرة تجتاحه في لحظة معينة عندما تحط رحاله في مدينة كامبريدج الإنجليزية للعمل في جامعتها العريقة، معتقدا أنه قد وصل إلى حالة الاستقرار المكاني التي كان يبحث عنها منذ أن غادر مدينته الأم القدس، فيجتاحه التساؤل عن إحساسه بعدم الاستقرار، وعن معنى أن تكون فلسطينيا في الشتات.
مما لا شك فيه أن الإجابة على تساؤل الهوية يعد من أكثر التساؤلات تعقيدا لدى الفلسطيني، أياً كان مكان وجوده. كون البناء الطبيعي لأي هوية وطنية، جمعية كانت أم فردية، ضمن حدود المكان والزمان المحددين (بالوطن) لا ينطبق على الحالة الفلسطينية، فمحددات بناء الهوية تلك انهارت مع سقوط الوطن تحت الاحتلال في عام 1948 وتبعثرت مع تشتت أهله في كافة بقاع الأرض.
ماذا يعنى أن تكون فلسطينيا؟ تساؤل طرحه سليمان على نفسه في لحظة محاولة اكتشاف الذات المغتربة والمحملة بالكثير من التساؤلات عن الهوية، ومعنى الوطن وكيفية التعايش مع الاغتراب. وللبحث عن الإجابة لم يفلت سليمان هذا السؤال الصعب في عوالم الشتات الفلسطيني، بل توجه به إلى أكثر من مئة مغترب فلسطيني موزعين على امتداد جغرافيا العالم مانحا الفرصة لهؤلاء المغتربين متعددي الاهتمامات والجنسيات والخلفيات الدينية، ودافعا إياهم ليتحرروا من السياسة والصراع، والنظر بل التعبير عن مكامن أحاسيسهم الشخصية وعن أنفسهم وهويتهم واغترابهم. وعليه خرج الكتاب بمئة واثنتين من القصص والمواقف والأحاسيس والتبريرات والتأملات حول كينونة هؤلاء الأشخاص الفلسطينيين في شتاتهم.
الاستثنائي هنا في كتاب سليمان هو إعطاؤه للمعنيين كـ "فلسطينيين مغتربين" الحق في سرد أنفسهم وإرهاصاتها ومعانيها تجاه هويتهم ووطنهم المفقود، وهذا ما لم نشهده سابقا لدى الكثير من الكتاب الذين نصبوا أنفسهم محللين ومتحدثين ومنظّرين لفلسطينيي الشتات من دون الالتفات إلى الأشخاص المعنيين أنفسهم بواقعهم. حيث يتبادر إلى ذهن المَنفي سؤال مُلح، هل المنفى وطن جديد أم إعادة بناء وصياغة للوطن المفقود؟
وربما الإجابة عن هذه الأسئلة لدى فلسطينيي الشتات، هي الاثنان معاً، مع اختلافات بسيطة تبعاً لطبيعة المنفى ومدى جاهزية المنفي للتعايش معه وفهمه وإدراك معالمه. مع اتساع وتنوع الرقعة الجغرافية للمنفى التي توزع فيها الفلسطيني، إذ تنوعت شخصياته وتعددت تمثيلاته وآراؤه عن فلسطينيته. وإن كانت فلسطين المفقودة هي العامل الأكبر في تشكيل الذات المغتربة، فالمنفى كان شريكاً فاعلاً في هذا التشكيل الذاتي وطبيعته، فكلاهما لعب دورا تبادُليا في الإجابة عن تساؤل سليمان.
لم يتبع اختيار سليمان شخصيات كتابه لأي نهج محدد بل جميعهم أتوا متنوعي الخلفيات والاهتمامات والخبرات والأماكن، هم فلسطينيون عاديون يعيشون في الشتات، كل لديه حياته وعمله وفضاؤه الخاص به، تجمعهم فقط فلسطينيتهم. فمنهم الكتاب والشعراء والفنانون والأطباء والأساتذة الجامعيون والمبرمجون والمسرحيون والصحافيون والمهندسون والباحثون وموظفو الهيئات الدولية والحقوقيون وغيرهم الكثير من ذوي الاختصاصات والمعرفة. هم النسيج المنطقي للشتات الفلسطيني الذي تعددت اهتماماته وتنوعت قصص نجاحاته في غربته.
يمكن اعتبار هذا الكتاب إلى حد ما بحثا غير مباشر في سيكولوجيا الشتات، ومعنى المكان، وإعادة الموضعة أو التموضع بالنسبة لفلسطينيي الشتات أو حتى للمنفى بشكل عام، فمعنى المكان حاضر بصورة غير معلنة في كيان كل الذين سردوا تأملاتهم كما جاء في بعض عناوين الكتاب "مقيم في المكانين، وليس مواطناً في أيهما"، "خسارة أمام الجغرافيا"، "انتماء"، "إلى أين الآن".
فالمكان كمساحة ثبات حتى ولو مؤقتة يُمثل لدى الفلسطيني أحد المُقومات الرئيسية لبناء الذات حسب الإمكانات المتاحة لديه والممنوحة له من المكان الذي يعيش فيه. فعلى مدار العقود الطويلة وجد الفلسطينيون أنفسهم يعيشون حالة اللامكان الخاص بهم على وجه الأرض، وحاولوا جاهدين بناء بدائل لذلك المكان غير الموجود، لتكون بمثابة ارتكازات تعويضية يستطيعون أن يعتمدوا عليها أينما كانوا.
تمثلت تلك البدائل بعدد من العناصر التي لها علاقة بالمكان المتاح وطبيعة سكانه وبالفلسطيني المغترب القادم إليه. بحيث توافقت تلك العناصر مع بعضها بعضا لتكون الإرث والكيان الذي يجعل للوجود الفلسطيني معنى ويتغلب على اللامكان لديه بحيث أضحت تلك العناصر هي المكان والملاذ بمعناه المعنوي في الغالب والحسي في بعض الأحيان وجعلت من وجود المكان الحسي مسألة ثانوية لدى الفلسطيني الذي كان دائماً يشعر بحالة عدم استقرار في أي مكان يعيش فيه، وذلك ليس لعدم وجود رغبة لديه في ذلك، بل لعدم وجود ثقة في المكان المعاش بأن يسمح للفلسطيني أن يعيش فيه على الأمد الطويل. لذلك كان التعليم واكتساب المعرفة في شتى فروعها وتطوير الخبرة أهم المقومات التي اعتمد عليها الفلسطينيون في خدمة أنفسهم والتغلب على مأساة غياب الوطن الذي استبدل في الكثير من الحالات بسلسلة من التنقلات في أماكن متعددة، لذلك فتح العلم أمام الفلسطينيين الكثير من حدود الدول التي كانت موصدة معظم الأحيان في وجوههم.
في النهاية، يجب أن لا نغفل أن سلسلة التنقل المكاني المؤقت التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون حتى اللحظة، جعلتهم أناسا متأقلمين من الدرجة الأولى. يبنون فكرة وطنهم إلى حد ما في المكان الذي أجبروا على القبول به أو منحهم الفرصة ليعيشوا فيه. عملياً أينما يوجد الفلسطينيون فهم يأخذون تفاصيل الأماكن التي يعيشونها ويحملونها معهم أينما تنقلوا. عملية التنقل من مكان إلى آخر وحمل تفاصيل هذه الأمكنة، منحتهم نوعاً من التهذيب والترويض للإحساس الجارح للغربة. من زاوية أخرى فإن امتداد البقعة الجغرافية مع هذا التنقل، والذي هو امتداد لغربة غير محسوسة، ولَّدت بدورها لديهم شعورا ما بامتداد هذا النفي إلى الأبد، وأن هذه الحالة الاغترابية ممتدة بدون حدود أو نهاية.
(مؤرخ فني وأكاديمي فلسطيني)