نستعيد ذكرى أعزّاء رحلوا. هم رحلوا، فكان الفَقْد.. فَقْدهم. ونستعيد ذكرى بعد ذكرى. هل هي طبيعتنا البشريّة البكّاءة، أم هو الفَقْد الذي يتخطّى كلّ التوصيف الممكن تصوّره؟ مضنٍ هو الفَقْد.. ويمضي في إنهاكنا.
"فقَدَ يَفقِد، فَقْداً وفِقْداناً وفُقداناً. هو فاقِد، والمفعول مَفْقود وفَقيد. فَقَد الشيء: ضاع منه وغاب عنه". هكذا يعرَّف فعل "فَقَد" في مراجع لغويّة، قبل أن يُتبع تعريفه ذاك بعبارة "ضاع منّا". لن يكون الأمر ضياعاً، إلّا إذا مسّنا.. نحن. الفَقْد يمسّنا لا بل يخدشنا، مخلّفاً جراحاً لا تندمل أو ندوباً غائرة في روحنا.. نحن.
اختفاء. إضاعة. اندثار. تضييع. تلاشٍ. توارٍ. خسارة. ذهاب. زوال. ضياع. بعض من مرادفات كثيرة تُربَط بذلك "الفَقْد" من دون أن تفيه حقّه.
شهر يناير أو كانون الثاني قد يُعَدّ - على صعيد شخصيّ - واحداً من أشهر الفَقْد الأشدّ وطأة، واحداً من أشهر الفَقْد الأشدّ قساوة. ربّما يكون يناير هو "شهر الفَقْد".
في الثامن عشر من يناير الجاري، عشر سنوات مرّت على فَقْد آلان. هو صديق الطفولة الذي تلاشى، إذ لم يكتفِ ذلك المرض الخبيث بنهش عظم رجله بل التَهم رئتَيه وبهجته وسنيه الثلاثين.
في الثاني والعشرين منه، ستّ سنوات مرّت على فَقْد نضال. عائلتها، كأنّها اندثرت في حادث المرور ذاك الذي لم ينجُ منه إلا فلذة كبدها الأصغر. هي حمت صغيرها بجسدها الذي استحال جثّة هامدة، فكان هو الناجي الوحيد. قبل أربع سنوات من الحادث المشؤوم، كانت نضال قد بكت فَقْد صونيا - صديقتها - لولدها آلان.
اليوم، في الخامس والعشرين منه، سنة واحدة مرّت على فَقْد زينب. إنّها الذكرى السنويّة الأولى لرحيلها. زينب كما آلان، لم يكتفِ ذلك المرض الخبيث بنهش أحشائها، بل التَهم ضحكةً طبعتها.. ضحكة ما زال صداها متردّداً.
هو شهر الفَقْد. كلّ فَقْد يعيد إلينا فَقْداً آخر أنهكنا. كلّ ذكرى فَقْد تعيد إلينا فَقْداً آخر أنهكنا أو ذكرى أخرى ما زالت تفعل.
الفَقْد. لا يعني الفَقْد الموت الذي يغيّب أعزّاء، فحسب. الفَقْد قد يكون أشدّ إيلاماً. هو قد يعني الحياة التي تغيّب أعزّاء. هو قد يعني الحياة التي تغيّبنا عن أنفسنا.
"تعلّمتُ أنّ كلّ نفس ذائقة الموت، إلّا أنّ الحياة لا تتذوّقها إلّا بعض الأنفس". لعلّ هذا القول واحد من أبدع ما أتى به مولانا جلال الدين الرومي. لعلّه ينبّهنا، فندرك أنفسنا ونفطن لما ينجّينا من تغييبنا عنها. ثمّة ما يستأهل الحياة. ثمّة ما يعيننا على تخطّي الفَقْد، بأشكاله المختلفة، فنمضي في الحياة.. نتذوّقها.