فقر وبطالة وعنوسة... فانتحار في مصر

07 ديسمبر 2019
نحو الخلاص... ربّما (فريديريك سلطان/ Getty)
+ الخط -

لا يكاد يمر أسبوع في مصر من دون أن تظهر في عناوين الأخبار حالة انتحار جديدة في مختلف المحافظات. منذ بداية العام الجاري، شهدت البلاد سلسلة من حالات الانتحار معظمها من الشباب، في ظاهرة مقلقة وخطيرة. وتعدّ مصر من أوائل الدول العربية في ارتفاع حالات الانتحار، بحسب منظمات عالمية ومحلية، حيث أكدت إحصاءات منظمة الصحة العالمية وقوع 3799 حالة انتحار عام 2018، بينما يشير "المركز القومي للسموم" إلى ضعف تلك الأرقام، مقارنة مع من يتم إنقاذ حياتهم خلال اللحظات الأخيرة.

تكشف مصادر حكومية، أن هناك اتجاهاً من قبل الحكومة إلى التخفيف من نشر أخبار الانتحار من خلال وسائل الإعلام المختلفة، خاصة بعدما أزعجت معدلات ارتفاعها المصريين، ودفعت الرأي العام إلى إدانة الحكومة والنظام، باعتبارهما السبب الأول في زيادة عمليات الانتحار، خاصة بين الشباب، نتيجة حالة البطالة والفراغ القاتل، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة والمتعددة.

وتتعدّد طرق ووسائل الانتحار في مصر، من أجل الهروب من الواقع بعد العجز عن إيجاد حل للمشاكل، كقطع شرايين اليد، والانتحار بالقفز من على أسطح المنازل وشرفاتها، أو بإلقاء النفس في نهر النيل، أو الشنق، أو إشعال النار بالنفس، وكذلك عن طريق حبة الغلال السامة التي تقضي على صاحبها خلال دقائق، وإطلاق النار، فضلاً عن الأدوية المخدرة. ووصل الأمر إلى استخدام عدد من الأدوية الطبية من الصيدليات، والتي تؤدي إلى هبوط حاد في الدورة الدموية مثل أدوية القلب والضغط.

شهد يوما السبت والأحد الماضيان خمس حالات انتحار، من بينها انتحار ممرضة في العقد الثاني من عمرها في محافظة كفر الشيخ (شمال القاهرة) بتناول حبة "حفظ الغلال" السامة. كذلك بات مترو الأنفاق في القاهرة، خلال الفترة الماضية، غولاً يلتهم حياة كثيرين، وبات الأمر أشبه بكابوس يطارد المصريين، وكانت آخر حالات الانتحار تحت عجلات قطار مترو الأنفاق عندما ألقى شاب بنفسه بمحطة أرض المعارض بالخط الثالث للمترو في مصر الجديدة. أما الحالة الثالثة، فهي إحراق مواطن نفسه في محافظة الجيزة، بعدما سكب سائل الكيروسين على جسده قبلها على خلفية ضغوط اقتصادية أسرية.

وفي محافظة أسيوط بصعيد مصر، ألقى شاب بنفسه في ترعة الإبراهيمية. أما الحالة الخامسة فهي لشاب في كلية الهندسة قام بإلقاء نفسه من أعلى برج القاهرة الذي يبلغ ارتفاعه 187 متراً، الأمر الذي أثار الرأي العام في الداخل والخارج، بعد أن قام أحد الأشخاص بتصوير عملية الانتحار ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا الأمر دفع الأجهزة الحكومية وأعضاء من نواب البرلمان الموالين للنظام، إلى التحرك بإصدار بيانات خاصة، إلى جانب البيانات الدينية، تحذّر من عواقب الانتحار، من دون التدخل لحل مشاكل أسباب الانتحار.

اليأس كبير (فايد الجزيري/ Getty) 

وشهد العام الجاري في مصر المئات من حالات الانتحار، ما جعل هذه القضية الشغل الشاغل للمصريين في أحاديثهم في ما بينهم وعلى شبكات مواقع التواصل الاجتماعي. وكان من بين أبرز الحوادث انتحار فتاة في بيتها بمدينة الزقازيق بالشرقية بواسطة حبل بعد مغافلة أهلها. وفي سوهاج، بصعيد مصر، أقدم تلميذ في الصف الخامس الابتدائي على الانتحار، بشنق نفسه مستخدماً حبلاً قام بلفّه حول رقبته وعلّقه بمنشر الغسيل. كما انتحر مجند في الواحد والعشرين من عمره، في محافظة دمياط، بعدما أطلق النار على نفسه خلال الخدمة العسكرية، في الكتيبة التي يتبع لها، بمحافظة الإسماعيلية. ويعتبر حرق الذات حالة نادرة، نظراً لقلة استخدامها، حيث أشعل مدرس النار في نفسه بمدينة طنطا، في محافظة الغربية، لأسباب لها علاقة براتبه.

كما شهدت منطقة حلوان، جنوب القاهرة، حادثاً مأساوياً بتخلص فتاة من حياتها بعدما تناولت كمية من سم الفئران. وقطع حَدَثٌ (16 عاماً) شرايين يده في محافظة الإسكندرية بقسم شرطة سيدي جابر للهروب من التعذيب. كما أقدم طالب على الانتحار بمحافظة قنا بصعيد مصر، بحبل داخل غرفته. ونفس الحادثة وقعت في محافظة الغربية بانتحار شاب (17 عاماً) بعدما عُثر عليه معلقاً في السقف. كما تسببت الخلافات الأسرية في انتحار ربة منزل في محافظة كفر الشيخ، بعدما قامت بإلقاء نفسها من شرفة منزلها من الطابق الرابع. وانتحر طالب جامعي في الإسكندرية بتناول قرص حفظ الغلال داخل منزله.

ومن أحداث الانتحار التي هزت الرأي العام في مصر، انتحار شهد أحمد كمال الطالبة بكلية الصيدلة في جامعة قناة السويس، التي عُثر على جثتها في مياه النيل بمنطقة الوراق بمحافظة الجيزة، وتبين أنها انتقلت من محل إقامتها في مدينة العريش، للإقامة مؤقتاً بوحدة سكنية استأجرها والدها بمدينة الإسماعيلية، لتكون قريبة من جامعتها.



تشير الأرقام التي أكدها "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية"، إلى أن الفئة العمرية الأكثر إقبالاً على الانتحار في مصر هي ما الفئة ما بين 15 و25 عاماً، وتبلغ نسبتها 66.6 في المائة، وتأتي بعدها الفئة العمرية ما بين 25 و40 عاماً، وتمثل النسبة الأكبر لانتحار الرجال. أما الفئة العمرية من 7 إلى 15 عاماً فتأتي في الدرجة الثالثة. وأضافت تقارير المركز أن الفئات الأكثر إقداماً على حالات الانتحار خلال العام الجاري، جاء الطلاب والعمال في مقدمتها، تلتها شريحة ربات البيوت، وتراوحت الأعمار ما بين 21 و30 عاماً.

وأشار المركز إلى تزايد حالات الانتحار في مصر، لأسباب مختلفة، في مقدمتها تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى أزمات نفسية تصيب الشخص وتدفعه إلى الانتحار. وأكد المركز أن المحافظات الحضرية الكبرى وهي القاهرة والجيزة والإسكندرية سجلت معدلات صعود في معدلات الانتحار أكثر من باقي المحافظات الأخرى.

ويؤكد أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، الدكتور سعيد صادق، أن الفقر والبطالة والعنوسة يعد "ثالوثاَ مدمرا" للانتحار في مصر، مشيراً إلى أنه "لو تم البحث في حالات الانتحار التي حدثت في مصر خلال الأشهر الماضية، خاصة بين الشباب، فلن تخلو أسباب الانتحار من هذا الثالوث، وهي حالات تعد مظاهر اعتراض وغضب ورسائل موجهة إلى الحكومة، بعدما افتقد أصحابها إلى العمل والأمل"، مشيراً إلى أن "المنتحر يريد التخلص من الصراعات التي بداخله ومن الألم إلى الأبد، ويرى أن الذهاب إلى الله أفضل من البقاء بين الناس، في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها".

تتوالى الفواجع ثمّ الألم (محمد الشاهد/ فرانس برس) 

من جهته، يرى أستاذ علم النفس بجامعة حلوان، الدكتور محمد حسن، أن الانتحار يأتي بعدما يصل المنتحر إلى ذروة اليأس، مؤكداً أن المرض النفسي أصبح موجوداً بين طائفة كبيرة من المواطنين، أكثرهم من الشباب، ولافتاً إلى أن "هناك أمراضاً نفسية تؤثر تأثيراً كبيراً على الإنسان، فضلًا عن الضغوط وصعوبات الحياة التي تفجّر تلك الأمراض النفسية، وكلما تعرّض الشخص لضغوط تظهر عليه أعراض المرض وتتفاقم وتؤدي به في النهاية إلى الانتحار". ويشير إلى أن "المواد المخدرة لها دور كبير في هذا الشأن، لكونها تُفقد الوعي وتخرج المتعاطي عن السيطرة"، مطالباً بضرورة وجود حلول من جانب الحكومة لمواجهة تلك الظاهرة الاجتماعية الخطيرة في مصر.

ويقول الداعية الإسلامي الشيخ جمال قطب، إن "اليأس أحد الأسباب المؤدية للانتحار، فلحظة الانتحار هي لحظة يأس، لأنه لا يوجد شخص منتحر محب للحياة وأموره تسير على ما يرام ويُقبل على قتل نفسه. وبالتالي نترك أمره لرب العالمين الذي يقدّر ظروفه، فهو أعلم لماذا انتحر، فربما تأتي لحظة يغيب فيها العقل فيقدِم المنتحر على هذا الفعل"، مشدداً على أن الميديا التي تقدم مشاهد عنف لها دور كبير في مسلسل الانتحار المستمر في مصر، ومؤكداً أهمية تضافر المجتمع بكل طبقاته لمواجهة تلك الظاهرة.




أما الخبير الاقتصادي والأستاذ في جامعة الأزهر، الدكتور حاتم القرنشاوي، فيشدد على أن "للعوامل الاقتصادية دورا كبيرا في عملية الانتحار، حيث يواجه الملايين من الشباب أزمة البطالة وقلة العمل والتوظيف، وعدم قدرة الشركات والقطاع الخاص على استيعاب الخريجين، سواء من الجامعات أو الدبلومات الفنية. إضافة إلى الأزمات الاجتماعية مثل حالات الطلاق، والتي سببها الرئيسي البطالة والتوقف عن العمل بعد الزواج والتسريح من العمل، وهو ما يؤدي في النهاية إلى حالة من الإحباط والتفكير الجدي في الانتحار". ويلفت إلى أن هروب الشباب والمخاطرة بحياتهم عبر البحار، في ما يعرف بـ"الهجرة غير الشرعية" إلى أوروبا، هو نتيجة حالة البطالة الموجودة بينهم.