يُحكى أخيراً عن فساد في مستشفيات تونس العمومية خصوصاً، لا يتعلّق بالخدمات المقدّمة إلى المرضى، إنّما بالتصرّف في أدوية صيدلياتها. وقد صدرت تقارير في هذا السياق توثّق حالات بالوقائع والأرقام
"سرقة الأدوية" في تونس ليست حكراً على المهرّبين وبعض تجّارها في السوق السوداء، وقد أشارت تقارير رقابية عدّة، على مدى السنوات الأربع الأخيرة، إلى شبهات كبيرة حول "التصرّف الفاسد" في الأدوية في داخل المستشفيات ومراكز الصحة العمومية، علماً أنّ المتورّطين فيها إمّا أنهم موظّفون وإمّا مسؤولون في تلك المستشفيات. وقد ذكرت في السياق تقارير إعلامية توقيف كوادر طبية وأخرى عاملة في مجال الخدمات الطبية المختلفة، بتهمة سرقة كميّات من الأدوية من صيدليات المستشفيات العمومية.
يفيد تقرير دائرة المحاسبات في الجمهورية التونسية الذي صدر أخيراً بأنّ التصرّف في الأدوية والمستلزمات الطبية والفحوصات التكميلية تشوبه أشكال عدّة من الخلل. على سبيل المثال، يشير التقرير ذاته إلى أنّ مستشفى عزيزة عثمانة في العاصمة لم يوثّق في سجلاته كميات من الأدوية تسلّمها من مصحّة العمران بقيمة 150 ألف دولار أميركي، ما بين عام 2012 وعام 2015. كذلك استلم المستشفى ما بين عام 2013 وعام 2015 أدوية خاصة بمرضى معيّنين بقيمة 50 ألف دولار بعد وفاتهم من دون تسجيلها في المخزون، ومن بينها أدوية بقيمة 16 ألف دولار أفاد المستشفى بأنّها لم تصل إليه، على الرغم من أنّ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي سجّل تسليمها لأحد أعوانه. وتؤكّد الدائرة في تقريرها ضرورة إيلاء التصرّف في الأدوية (تسلّم وصرف) العناية اللازمة واتخاذ الإجراءات الضرورية تجاه أيّ خلل يُسجَّل، وترشيد التصرّف في الفحوصات التكميلية. وتعاني تطبيقات عدّة لمركز الإعلامية التابع لوزارة المالية في المستشفى، من مشكلات مختلفة، لا سيّما ما يتعلّق بعدم اندماجها وغياب آليات الرقابة والسلامة المعلوماتية، خصوصاً في غياب حوسبة الملفّ الطبي، الأمر الذي أثّر سلباً على شموليّة الفوترة وتحصيل الموارد.
نقص الأدوية وسوء التصرّف فيها لا يتعلّق فقط بمستشفى عزيزة عثمانة، إذ تشير رئيسة قسم الصيدلة في المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة في صفاقس (جنوب)، الدكتورة أمنة الزريبي، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّها سبق وكشفت سرقة أدوية في المستشفى "لكنّني تعرّضت إلى مضايقات عدّة". وتؤكد أنّ "غياب الرقابة على مسار التصرّف في الأدوية، إلى جانب عدم توفّر منظومة إلكترونية تنظّم عملية استلام الأدوية وتوزيعها على المرضى، يعوّقان مراقبة حسن التصرّف في كل أنواع الأدوية في كل المستشفيات".
من جهتها، خصّصت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تقريرها الحادي والثلاثين الصادر أخيراً، فصلاً للتجاوزات التي سُجّلت في قطاع الصحة، لم تستثنِ منه مراقبة عملية التصرّف في الأدوية. وأشارت إلى شبهات فساد كبير في عدد من المستشفيات، موضحة أنّها تعهّدت، على سبيل المثال، بمتابعة ملفّ قضيّة أفاد الشاهدان فيها بأنّهما شاهدا شخصاً يعمد يومياً، تقريباً، إلى حمل أكياس من الأدوية من أحد المستشفيات إلى صيدليات محاذية له. وقد أضافا أنّ ذلك الشخص يعمل في المستشفى ويسرق الأدوية ويبيعها إلى صيدليات خاصة. وقد أحالت الهيئة الملف إلى الجهات القضائية المختصة لإجراء التحقيقات اللازمة.
كذلك تعهّدت الهيئة بمتابعة بلاغ من مواطنة في محافظة نابل (شمال شرق) حول شبهة تجاوزات إدارية ومالية في مركز الصحة الأساسية في الشريفات، متمثلة في اختلاس كميات كبيرة من الأدوية من قبل ممرّض. وقد باشرت الهيئة أعمال التقصّي حول الموضوع وطلبت من الإدارة الجهوية للصحة العمومية في نابل التوجّه إلى مركز الصحة الأساسية للتأكد من صحة البلاغ. وأفضت نتائج البحث إلى وجود خلل يصل إلى شبهة فساد مالي وإداري. ويأتي ذلك على خلفيّة ضعف منظومتَي الرقابة والإدارة والتصرّف في الأدوية، بسبب التفرّد بالإدارة. كذلك تبيّن وجود تلاعب في مخزون الأدوية الخطيرة والخاضعة مباشرة إلى وزارة الصحة، من قبيل العقاقير المدرجة في خانة "المؤثرات العقلية"، مع تسجيل نقص كبير في الكميات المتوفرة في غياب ما يبرّر ذلك النقص.
في السياق، تعهّدت الهيئة بمتابعة ملف فساد يتعلّق بالاستيلاء على مادة "كيتامين" المخدرة من مستودعات الصيدلية المركزية، لا سيّما من مستودع توزيع أدوية المستشفيات في سوسة (وسط شرق). وكانت الصيدلية المركزية قد أكّدت تكرار ذلك النقص من المستودعات التابعة لها.
تجدر الإشارة إلى أنّ دائرة المحاسبات والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أوصتا، في ختام تقريرَيهما المذكورَين آنفاً، بضرورة مراقبة التصرّف في الأدوية في المستشفيات، إلى جانب إرساء منظومة إلكترونية تنظّم عملية التصرّف في مخزون تلك الأدوية وعمليّة توزيعه. ويقول أحد المسؤولين في وزارة الصحة، فضّل عدم الكشف عن هويّته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الوزارة تابعت تقريرَي دائرة المحاسبات والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ما يتعلق بسوء التصرّف في الأدوية في بعض المستشفيات. وتعهّدت بمتابعة الملفات والقضايا، وتشديد الرقابة وتكليف مصالح الرقابة بذلك، إلى حين إرساء منظومة إلكترونية مستقبلاً في معظم المستشفيات، تنظّم عملية التصرّف في الأدوية وتسجّل الكميات المستلمة والموزّعة على المرضى بالتفاصيل".