فرِد أستير... وصفة الحلم السحرية

10 مايو 2020
ابتدأ المشوار بصحبة الراقصة البارعة أخته أديل أستير (Getty)
+ الخط -
مدفوعاً بطاقة الحب، اقتفاءً أثرَ الحسناء اللندنية ديل ترمونت أينما راحت وارتحلت، يحلّ الراقص الأميركي جيري ترافرس في مدينة البندقية. يدخل عليها فجأةً بينما تجالس صديقتها مادغي خلال حفلة راقية للرقص، فيتجاذبون سويةً حبالَ التمنّع والغزل. وإن بادلته بدورها الانجذاب والإعجاب، بيد أن ديل ما زالت في حال التباس وارتباك حياله، إذ إنها تظن أن ما جيري إلا زوج مادغي، وذلك لاحتدام الشبه بين الرجلين.

برضى الأخيرة، يُفلح جيري أخيراً في دعوة ديل إلى رقصة سحرية، سترسم واحدة من روائع الذكريات الهوليوودية؛ أغنية "خدّ على خدّ Cheek to Cheek" ضمن فلم Top Hat، إنتاج سنة 1935، بطولة جنجر روجرز بدور ديل، وبدور جيري أسطورة الرقص فرِد أستير Fred Astaire، الذي تصادف اليوم ذكرى ميلاده الـ 121.

"ما أعرفه هو أنها الجنّة، أنا في الجنّة". ذلك مطلع الأغنية فيما يراقص فرِد جنجر الشقراء بتؤدة بين الناس. يتابع الغناء، مخاطباً إياها: "قلبي ينبض بشدة أكاد لا أقوى معها على الكلام، فيما أبدو وقد أدركت السعادة التي أنشدُ". سعادةٌ، ظلّت حينها بعيدة المنال جداً بالنسبة إلى معظم الشعب الأميركي الذي كان لا يزال يئنّ تحت وطأة سنين الثلاثينيات العجاف في ظل ما تُعرف بحقبة "الكساد العظيم" التي أعقبت انهيار سوق العملات الأميركية يومَ "الثلاثاء الأسود" في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1929، وأدت إلى أزمة اقتصادية خانقة عمّت كلّ أنحاء الأرض، صبغت عقداً كاملاً بكحل القلاقل والاضطرابات، وصعود القوى الظلامية، واستفحال التيارات العنصرية والسلطوية، التي أفضت في نهاية المآل إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939.

تحت وطأة الفاقة وانعدام البارقة واستحالة الأمل، ما أحوج الناس إلى الحلم. وَصْفَة الحلم السحرية تلك، خطّها فرد أستير بخُطاه الأنيقة الرشيقة. تلك القنطرة الكلاسيكية التي تُميّز جُلّ أفلامه، مثلما تماماً في مشهد "خد على خد"؛ حيث ينتقل الثنائي الراقص من الكلام والغناء، سواءً في عزلة أم بين الناس، ليعبروا جسراً سينمائياً، مُجسّداً بالديكور أو مجازاً بالسيناريو، سيؤدي بهم نحو حلبة الرقص؛ برزخُ العبور من سردية الواقع إلى سرمدية الحلم.

بفُستان من ريش نعام، تُحلّق جنجر روجرز حول خصر فرد أستير النحيل وبين ذراعيه. الريش الأبيض، الذي أثار سخط أستير وامتعاضه لكسره حدة التباين بين سواد بزّته وبياض ثوبها، فضلاً عن تطايره في أرجاء المكان، يتموّج متناغماً مع قفزات روجرز في الهواء، لُيضيف، من باب الصُدفة الهندامية، على فانتازية المشهد. لكم هو عالم عُلوي غرائبي، ذاك الذي يُشكّل الحلبة ويتشكل في فضائها، فيما أقدام كل من روجرز وأستير تكاد لا تلمس أرضاً بيضاء كالغيوم، وإن تناهت ضروب الإيقاعات التي تُحدثها مُزخرفةً حُزمَ الألحان، التي ألّفها الموسيقي الهوليوودي إرفن برلين.

سيرة مهنية طويلة ومزهرة من رقص وغناء وتمثيل، امتدت نحوَ واحدٍ وسبعين عاماً، بتقدير فرد أستير خلال مقابلته الشهيرة التي أجراها مايكل باركنسون سنة 1976. عند أول اعتلاءٍ احترافي لحلبة للرقص كان لا يزال حينها في الرابعة من عمره.

منذ ذلك التاريخ، ابتدأ المشوار بصحبة الراقصة البارعة، أخته أديل أستير، وبثمار صداقة مُميّزة جمعته بالمؤلف الموسيقي الأميركي الأشهر جورج غرشوين (1898 - 1937) الذي وهب جُلّ طاقاته الإبداعية في سبيل صناعة هوية موسيقية أميركية تقوم بالجاز وعليه من ألوان ائتلافاتٍ وأنماط إيقاعاتٍ، كوّنت لها خبطات أقدام أستير ومن سبقه من نجوم رقص النقر بالأكعاب ورؤوس الأصابع المناهل الرئيسة، التي ألهمت طبيعة دور عدة الطبول (الدرامز) في فرق الجاز، كما أسهمت في تحديد المهام، الفردية والجماعية، التي تضطلع بها.

إن كان ثنائي الأخت والأخ أديل وفرد أستير هو مُبتدأ الشهرة والنجاح، وذلك بالنسبة للأخير على وجه الخصوص، إلا أنه ومنذ مطلع الثلاثينيات، لم يعد هناك سحرٌ في هوليوود يُضاهي في رونقه الشراكةَ التي جمعت أستير بجنجر روجرز، حينها، شكّل الاثنان معاً علامة فارقة في صناعة الترفيه الأميركية في فترة ما بين الحربين، أولها في مجال السينما الناطقة، ثم التلفزيون.

في تعليق شهير بخصوص الثنائي الراقص للممثلة الأميركية الخالدة كاثرين هبّرن، حيث قالت: "قدمت جنجر لفرِد الجاذبية الجنسية، فيما قدّم فرد لجنجر الرِفْعة class". بوحي وإلهام ذلك التكامل، توّج تعاون الاثنان معاً، فضلاً عن "توب هات"، إنتاج تسعة أفلام تعد من روائع السينما الغنائية الراقصة.

ككل المُبدعين التاريخيين، كان لزاماً على فرِد أستير أن يترك بصمة خاصة، ليست صوريّة وحسب، بل تقنيةً أيضاً. تجلى ذلك في ثورنة النهج التقليدي المُعتمَد في تصوير مشاهد الرقص. الراقص، ومن ثم القصة باتا الآن يحتلان بؤرة المشهد، وفي ذلك تحوّل إنتاجي بقدر ما هو اجتماعي ضمن سيرورة تطور الصناعة الترفيهية الأميركية.

في الماضي، كانت أغلب عروض الرقص تُؤدى بمجموعة راقصات لا هوية فردية لأيٍّ منهُن، أو من قبل راقصين، أزواجاً أو منفردين، لا يجوز لهم التقدم على فئة المُمثلات والممثلين ضمن هيكل التراتبية، أو أنهم من سود البشرة الذين لا تسمح أنساق التمييز العنصري بدفعهم نحو الواجهة السينمائية.

مكّن تسيُّد فرِد أستير، الراقص والممثل والنجم أبيضَ البشرة، جنسَ أفلام الغناء والرقص، من أن يفرض على كل من المُنتج والمخرج وصلةً مُنفردة خاصة به في كل فيلم. ومن ثم غلّب اللقطة الكليّة التي ترصد حضورَ الراقص، على تلك الموضعية التي تُتابع حركات الأرجل والأقدام، مُسلّطاً بذلك الضوء على الشخصية التي يؤديها الفنان، ليس رقصاً فحسب وإنما تمثيلاً درامياً أيضاً.

من جهة أخرى، لم تعد وصلة الرقص في عهد أستير مجرد قيمة ترفيهية مُضافة إلى الفيلم، وإنما أصبحت من إحداثيات السرد ونقطة عبور مشهدية وحدثاً من أحداثه المحورية. بهذا صار للراقص وتصميم الرقص نصيبٌ في القصة والرواية، وإن تركّزت في معظم الوقت في تصوير الغزل والحب بين أستير وإحدى شريكاته على الحلبة.

كذلك، وككل المُبدعين التاريخيين، كان لأستير الأثر على من جاء من بعده، سواءً في مجال الرقص، أو في التمثيل. تبادل كل من مايكل جاكسون الشاب وفرِد الأسطورة الإعجاب. طوّر جاكسون أسلوبه وحركاته بوحي وإلهام من إرث أستير، فيما أفصح الأخير في غير مناسَبة عن افتتانه بالنجم الصاعد، ورأى فيه استكمالاً لدربه الخاص. بالنسبة لنجم أفلام الفنون القتالية جاكي شان، كان أستير مصدر إلهام مُتجددٍ دائم، إن كان في تصميم المشاهد القتالية أو حتى في طرائق التصوير وتحرير الصور والمشاهد.

اليوم وبعد قرن وقرابة العقدين من ولادته، لكم يبدو العالم شبيهاً بذاك الذي خطّ أستير له بخطواته وصفة الحُلم السحرية. ها هو الاقتصاد في خضمّ الحرب على وباء كوفيد 19 وقد بات مُشرفاً على انكماش تاريخي ما فتئ يستدعي أوجه المقارنة بالكساد العظيم. أكثر من أربعين مليون أميركي أمسوا عاطلين عن العمل، ولا أمل في تعافٍ قريب ونهوض من جديد قبل مضيّ أعوام. هوليوود التي غرّبتها منصّات الإنترنت فقدت بريقها، وأميركا تبحث عن "أستيرها" فلا تجده، ولا تجد رئيساً كفرانكلين روزفلت (1882-1945) يُبدِع خريطة طريق إصلاح اجتماعي واقتصادي عُرفت في عهده بـ "الاتفاق الجديد The New Deal" آتت أُكلها وأوقفت الولايات المُتحدة على أقدامها، جاعلةً منها الأمة الحُلم، ومن كوكب الأرض لأجلها، حلبةَ رقص مكوّرة.

دلالات
المساهمون