الجرم الوحيد الذي اقترفه الشاب الأميركي من أصل أفريقي، فريدي غراي (25 عاماً)، وأدى إلى وفاته في نهاية الأمر، كان التحديق في عينيّ ضابط في الشارع مصادفة، ثم الفرار من المكان، ربما، خوفاً. هذا ما تقوله التقارير الرسمية حول ملابسات القبض عليه. وليس الخوف نابعاً من اقتراف جريمة، بل من العواقب المعروفة لأي مواجهة للأقليات، وخصوصاً السود، في الولايات المتحدة، مع قوات الشرطة التي تتعامل معهم بشكل عنصري وبعنف مفرط. وهذا ما جعل غراي يهرب من الشرطة. لكنها لم تتردد في ملاحقته للقبض عليه. ولم "تكتف" الشرطة بقتله، بل تسترت على الموضوع في البداية ولم تعلن عن التفاصيل.
ملابسات القتل الغامضة
أثار مقتل غراي أسئلة كثيرة حول ملابسات موته، ولكن لا أجوبة واضحة من الشرطة إلى الآن. ومرة أخرى يؤدي تصوير جزء من الحادث إلى وصول القضية إلى وسائل الإعلام وإظهار كذب عناصر في الشرطة الأميركية. لكن القضية أكثر تعقيداً وغموضاً. فقد قُبض على الشاب في الـ12 من أبريل/ نيسان الحالي، من دون أن يكون هناك مبرر واضح للقبض عليه، وتوفي في 19 من الشهر إثر إصابات في نخاعه الشوكي أدت إلى وفاته، بحسب تقرير الطب الشرعي. ويظهر شريط قام أحد المارة بتصويره، لجزء من عملية القبض، أن غراي لم يقاوم القبض بل كان يصرخ متألماً بسبب إصابة في رجله. ويُسمع في الفيديو صراخ أحد المارة على الشرطة لأنها قامت بسحله على الأرض إلى السيارة، متسائلاً: "لماذا تقومون بسحله ورجله مكسورة؟".
وبحسب تصريحات لمسؤولين في المدينة خلال عدة مؤتمرات صحافية عُقدت في هذا الشأن، فإن سيارة الشرطة غادرت المكان ووصلت بعد نصف ساعة إلى مركز الشرطة. وتوقفت في الطريق مرتين من دون أن توضح الشرطة السبب حتى الآن. وعندما وصل الشاب إلى المركز كان يعاني من ضيق في التنفس وجروح في رجله سببها ومصدرها غير واضح. وأعلنت عائلته في مؤتمر صحافي عقدته، أن ابنها، وبحسب تقرير الطب الشرعي، توفي نتيجة كسور في عموده الفقري وإصابات في نخاعه الشوكي أدت إلى وفاته.
ولم يشر أي من تقارير الشرطة حول الحادث إلى استخدام القوة ضده بعد القبض عليه وفي الطريق إلى مركز الشرطة. وليس هذا مستغرباً، فهناك تاريخ من إخفاء الحقائق والتكتم حين يتعلق الأمر بعنف الشرطة الأميركية تجاه المواطنين، كما تشير حوادث سابقة كثيرة ومن ضمنها حادثة مقتل والتر سكوت، الشاب الأسود الأعزل بداية شهر أبريل الحالي، حين قام شرطي بتوقيفه على ما يبدو لمخالفته إشارة عبور المشاة الحمراء. وعندما حاول الهرب مبتعداً عن الشرطي، قام الأخير بإطلاق النار على ظهره ثم كذب عن تفاصيل الحادث إلى أن نُشر فيديو يظهر عملية الاغتيال لذلك الشاب الأسود الأعزل كذلك.
اقرأ أيضاً: انتفاضة سوداء تقترب من البيت الأبيض والسبب أحداث ميريلاند
تحيّز وسائل الإعلام الأميركية
تظاهر الآلاف في مدينة بالتيمور منذ الإعلان عن وفات فريدي غراي في التاسع عشر من الشهر الحالي، وكانت التظاهرات سلمية مُطالبة بالتحقيق بملابسات الحادث، ولكن وسائل الإعلام الأميركيّة أهملت هذه التظاهرات. وشهدت ليلة الأحد/ الإثنين نشوب أعمال شغب وعنف بعد تشييع جثمان الشاب. ويبدو أن ما أشعلها هو تحرّش بعض العنصريين من البيض وتلفّظهم بعبارات نابية وتهجّمهم على المتظاهرين. وبدلاً من أن تشرح وسائل الإعلام ملابسات مقتل الشاب وتضعه في سياقه الصحيح، فإنها ركزت على أعمال الشغب من دون أي محاولة لفهم الإحباط الذي يعيشه هؤلاء الشباب ليس فقط بسبب العنصرية والتمييز التاريخي بحق السود في الولايات المتحدة، بل كذلك بسبب أوضاع اقتصادية بائسة وانعدام الثقة بالشرطة عموماً وفي بالتيمور خصوصاً، إذ تورطت في السنوات الماضية في أعمال عنف ضد المواطنين أدت إلى رفع الكثير من القضايا ضد الشرطة.
وليس من المستغرب أن يصب الكثير من المتظاهرين كذلك غضبهم على وسائل الإعلام وممثليها من المراسلين في تلك الأماكن، وهي التي تصورهم كمشاغبين مخربين متهمين في الغالب بسبب لون بشرتهم. وهي وسائل الإعلام نفسها، كما تُظهر ملاحظات نشطاء سياسيين، التي تصف قيام شباب بيض بتدمير محلات ومنشآت عامة، بعد فوز هذا الفريق الرياضي أو ذاك، بأنها احتفالات، وتحرص على تصنيفها كاستثناءات وحالات معزولة ولا تمثّل أغلب المشجعين. كما أهملت وسائل الإعلام كذلك صور مئات المتطوعين، الذين خرجوا صباح الثلاثاء لتنظيف شوارع مدينتهم، ومد يد العون لأصحاب المحلات التي هوجمت. صور تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي أكثر ممّا تداولتها محطات التلفزة الأميركية.
وعززت الأحداث الأخيرة إشكالية أخرى تظهر عمق الشرخ بين الأقليات والشرطة كنظام، حتى في مدينة مثل بالتيمور تصل نسبة أفراد الشرطة السود فيها إلى حوالي خمسين بالمئة، ورئيس جهاز الشرطة فيها أسود (يبدو أن الذين قبضوا على غراي كانوا من البيض). فإذا كان الكثيرون قد علّلوا ممارسات العنف المفرطة من قبل الشرطة في مدينة مثل فيرغسون، في ولاية ميزوري، بعدم وجود ما يكفي من السود في جهاز الشرطة، فإن حوادث بالتيمور تبيّن أن الشرطي الأسود لن يحصل على ثقة المواطن الأسود بالضرورة لأنه أصبح جزاًء من نظام دولة قائمة على التمييز العنصري، وارتدى زيّها وبهذا قد يكون تشرّب أيديولوجيتها.
اقرأ أيضاً: إعلان حالة الطوارئ في ولاية ميريلاند