فرنسا والإرهاب الفردي المعزول

27 ديسمبر 2014

قوة فرنسية في شارع الشانزليزيه (24 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

تعيش فرنسا هاجساً أمنياً واجتماعياً، بسبب تداعيات نشاط الحركات الجهادية في مشرق العالم العربي ومغربه، وفي الساحل وامتداداته محلياً، على ثلاثة أصعدة.
يكمن الأول في اختطاف واحتجاز مواطنين فرنسيين، لاسيما في منطقة الساحل، ما يُحدث ضغطاً على الحكومة. وقد لقي بعض الرهائن حتفهم على يد مختطفيهم، فيما أفرج عن آخرين، بعد مفاوضات طويلة وصعبة، انتهت، في غالب الأحيان، بالمقايضة؛ دفع الفدية أو الإفراج عن معتقلين في دول ساحلية، ينتمون إلى تنظيمات جهادية، في مقابل إطلاق سراح الرهائن، بيد أن اختطاف الرهائن واحتجازهم أزمة يمكن إدارتها سياسياً، من دون أن يكون لذلك انعكاسات محلية كبيرة، مقارنة بما يأتي.
يتمثل الثاني في التحاق فرنسيين من أصول عربية-إسلامية، أو من معتنقين للإسلام حديثاً بالتنظيمات الجهادية في سورية وخارجها، خصوصاً داعش. وأصبح هؤلاء هاجساً أمنياً للحكومة، ولأجهزة المخابرات في فرنسا، لعدة أسباب. أولها أنه لا يمكن لفرنسا أن تكون مصدراً لجهاديين لتدعيم التنظيمات المقاتلة في سورية والعراق، والقول، في الوقت نفسه، بمحاربة الإرهاب والمشاركة في الائتلاف الدولي ضد داعش. ثانيها تشكل عودة بعضهم إلى فرنسا خطراً على أمنها، بما في ذلك الأمن المجتمعي. فقد ينفذ العائدون من مسرح الجهاد المشرقي عمليات ضد مصالح الدولة، أو ضد مواطنين عزل. ثالثها، أن وجود هذه الظاهرة، بحد ذاته، أي تجنيد فرنسيين للقتال في صفوف تنظيمات إرهابية في الخارج، دلالة على اختراق اجتماعي، وحتى أمني، لأنه يعني أن خلايا تجنيدية تعمل في الخفاء، سواء عن بعد (عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي) أو عبر اللقاء المباشر في بعض أحياء المدن الفرنسية، لإقناع شباب في صفوف هذه التنظيمات وتجنيدهم.
أما الثالث فيكمن في ظهور الإرهاب المحلي، ففي السابق، كانت العناصر الإرهابية تأتي، بالأساس، من خارج أوروبا. لكن، استفحلت، أخيراً، ظاهرة الإرهاب المحلي: انخراط مواطنين أوروبيين، من أصول عربية-إسلامية، أو معتنقين حديثي العهد بالإسلام، في تنظيمات جهادية، لينقلوا بذلك الظاهرة إلى قلب أوروبا. يُصعِّب هذا الإرهاب المحلي عمل أجهزة الأمن الفرنسية، لأنها تتعامل مع مواطنين فرنسيين عاديين، ما يجعل من الصعوبة بمكان مراقبتهم، واقتفاء تحركاتهم، خصوصاً أن هذه الأجهزة تعمل في إطار دولة القانون، ما يعني أنها لن تتدخل إلا في حال مؤشرات دقيقة حول حدوث عملية ما.

تمخض عن التفاعل بين ثلاث ظواهر، الإرهاب المحلي المنشأ والتحاق فرنسيين بتنظيمات جهادية في الخارج، ووجود خلايا التجنيد عن بعد، و/أو عن قرب، ظاهرة (جديدة) الإرهاب الفردي المعزول. عادةً، تكون تحركات العناصر الإرهابية نتيجة انتمائهم إلى خلية، أو تنظيم معين، يجندهم ويغذيهم بالفكر الجهادي، ويزودهم بالدعم الضروري، لتنفيذ عمليات تفجيرية، خطط لها التنظيم، وأعد لها ما يلزم، بعيداً عن التراب الفرنسي، معتمداً على منفذين موفدين أو محليين. بيد أن ما يحدث، الآن، هو قيام أفراد بعمليات مختلفة، من حيث الأداء والنوعية، ومتفرقة، من دون أن يكون وراءهم تنظيم محدد يدعمهم، بمعنى أن التوافق-الاقتناع الأيديولوجي، بمنطق تنظيمٍ ما، يكفي لأن يقوم شاب فرنسي بعمل إرهابي، كما حدث، الأسبوع الماضي، في مدينتين فرنسيتين. حيث اعتدى شاب من أصل بورندي اعتنق الإسلام على شرطيين في مقر الشرطة في المدينة. وحسب أجهزة الأمن، فإن هذا الشاب، الذي قتل على يد رجال الشرطة، متأثر بفكر داعش ونشاطها، فيما دهس آخر متسوقين في سوق في مدينة أخرى.
اجتماعياً، يجعل خطر الإرهاب الفردي المسلمين في فرنسا عرضة لمزيد من التمييز، ذلك أنه، مع الانخفاض المتزايد لسقف التسامح في المجتمع الفرنسي، وتصلب عود اليمين المتطرف في البلاد، فإن الانتقال من إرهاب منظم إلى إرهاب فردي معزول، يعني، بالنسبة للقوى اليمينية المتطرفة، أن المشكلة في المسلمين. وتعي الحكومة الفرنسية خطر مثل هذه المزالق. لذا، تشدد على ضرورة ضبط النفس، وتجنب الخلط بين المسلمين والعناصر الإرهابية التي توظف الإسلام لانتهاج العنف واحترافه.
أما أمنياً، فيضع الإرهاب الفردي المعزول أجهزة الأمن في مأزق. فهي تعودت على مراقبة واقتفاء حركة مجموعات، ما يسهل عملها وتحرياتها. لكن، عليها، اليوم، التعامل، أيضاً، مع أفراد معزولين عن النشاط التنظيمي، ومنعزلين عن المجتمع. وإذا كان من الممكن رصد إشارات الإنذار الأولى لما يتعلق الأمر بفرد مرتبط، أو قريب من تنظيم ما، فإنه من الصعب رصدها في حال فردٍ، لا ارتباطات تنظيمية له، بمعنى أنه لا مبرر لدواعٍ احترازية لمراقبته.
يذكّرنا هذا العمل الفردي المعزول للعناصر المتأثرة بالفكر، النشاط الجهادي، بحوار للمقدسي، أحد رموز السلفية الجهادية ومنظريها، أدلى به لمجلة عربية، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، رفض فيه مفهوم التنظيم والهرمية والمرجعية، قائلاً إنه لما يعتبر شاب مسلم أن هناك منكراً فليغيره، من دون الحاجة إلى الرجوع إلى مرجعية لشرعنة عمله وتزكيته.
وإن اتضح أن ما يحدث، حالياً، يتطابق وهذا العمل الجهادي الأفقي، فإن ذلك يضع استراتيجيات محاربة الإرهاب على المحك، لاستحالة القيام بتحريات، واتخاذ تدابير وقائية، من دون تحديد الهدف مسبقاً. فالانتقال من أعمال منظمة جماعياً إلى أعمال فردية، ينصهر أصحابها في المجتمع، دلالة على نقلة نوعية في العمل الجهادي. وسيؤدي هذا، بدون شك، إلى تغيير النصوص التشريعية الفرنسية ذات الصلة، فالقانون الفرنسي الحالي يعاقب على القيام بأعمال إرهابية في إطار جماعي ومنظم. لذا، لا يمكن قانونياً توصيف أو تكييف (التكييف القانوني الذي على أساسه تُحدد القاعدة القانونية التي ستطبق في هذه الحالة) ما حدث، أخيراً، بعمل إرهابي، لأنه صدر عن فرد، من دون ارتباطات تنظيمية، إلا إذا أثبتت التحقيقات الأمنية غير ذلك.