تتفاعل فصول الزلزال الذي أصاب فرنسا منذ أسبوع، في كل ثانية تعيشها البلاد وعلى المستويات كافة، على وقع سجالات ونقاشات حول التدابير الأمنية التي أعلنها رئيس الحكومة، إيمانويل فالس، مروراً بموضوع اللاسامية والجاليات المسلمة وقضايا التعايش والعلمنة، وصولاً إلى الهوية الفرنسيّة وهيستيريا الإعلام الممزّق في مهمّته بين تأدية واجبه وتفسير وتحليل ما يجري بسبب ضخامة وحجم المشاكل.
ولا يرق اعتماد قانون "باتريوت أكت" لعدد من الخبراء الفرنسيين، الذين يعتبرون أنّ "فرنسا ليست الولايات المتحدة"، ويشير أحد الخبراء في معرض رفضه تطبيق القانون إلى أنّ "هناك العديد من الفوارق السياسيّة والثقافيّة والجغرافيّة بين البلدين، وبالتالي فإنّ المقاربة تختلف حتى ولو كان التصوّر الأمني ووسائل التكنولوجيا متشابهين".
ولاقت مداخلة فالس المطولة، إجماع وثناء أقطاب اليمين واليسار، باستثناء الجبهة الوطنيّة، الذين وصفوا خطابه "الجمهوري" بالكبير، علماً أنّ مداخلته حول الأمن، واللا سامية، والإسلام وإعلانه أن فرنسا تعيش حرباً ضد الإسلام المتشدّد، لاقت تأييداً لا حدود لها في الجمعية الوطنية مجتمعة. وعكست استطلاعات الرأي، أمس الأربعاء، ارتفاع شعبية فالس بنسبة 7 نقاط وحصوله على 41 في المائة، فيما حاز الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، فقط 5 نقاط إضافية، ووزير الداخلية، برنار كازنوف، 12 نقطة إضافية. وتلقى إدارة الأزمة من الثلاثي هولاند وكازنوف وفالس، تأييد ورضا 80 في المائة من الفرنسيين، الذين أكّدوا ارتياحهم لطريقة إدارتهم الأزمة.
ويبدو أنّ المفكر الصهيوني، ألان فينكلكروت، لم يكن يتوقّع فرصة أفضل من هذه، بعد الاعتداء الإرهابي على صحيفة "شارلي إيبدو"، فيما تبيّنت صحة قراءة زعيمة حزب الجبهة الوطنية المتطرف، مارين لوبين، التي قالت في الدقائق القليلة التي أعقبت المجزرة، إن الكلام تحرَّرَ في فرنسا. إذ أصدرت شارلي إيبدو، في طبعتها الجديدة، أمس الأربعاء، وبفضل الأموال والمساعدات التي تقاطرت عليها، من كل نوع، عدداً جديداً، نفد من الأسواق في الساعات الأولى من يوم أمس، وصلت نسخه إلى ثلاثة ملايين، كما تعمل على إصدار طبعات جديدة، اليوم الخميس، بعد أن كانت مُشرِفةً على الاختفاء من المشهد الإعلامي الفرنسي، وانخفاض مبيعاتها إلى ما دون 60 ألف نسخة.
وانعكس تأثير الهجوم على "شارلي إيبدو" على صحف أخرى تسير في الاتجاه ذاته، فتصاعدت مبيعاتها، ومنها صحيفة "لو كنار أونشينيه" الساخرة، وصحيفة "ليبراسيون"، التي استضافت فريق عمل "شارلي إيبدو" الجديد، للمرة الثانية، ولم تتوقف عن إعادة نشر رسوم ومواضيع الأخيرة، بل والمزايدة عليها، شأنها شأن مجلة ماريان الأسبوعيّة.
وإذا كان العدد الجديد من صحيفة "شارلي إيبدو"، يستغلّ جو التعاطف والانفعال الذي لا يزال سائداً بعد المجزرة، فإنّ كثيراً من ردود الفعل في فرنسا، لا تحظى بكثير من الانتباه. وقرر رئيس معهد العالم العربي في باريس، الوزير السابق جاك لانغ، وفي إرباك شديد لمجلس السفراء العرب الذي يتقاسم معه إدارة شؤون هذا المعهد، ولكثير من موظفي المعهد، وضع لافتة كبيرة على الواجهة الزجاجيّة تحمل عبارة: "كُلُّنا شارلي".
وفي وقت يرفع فيه الطاقم الجديد لصحيفة "شارلي إيبدو"، في تناغم شديد مع كلّ الأحزاب السياسيّة الفرنسيّة، راية حريّة التعبير، بشكل لا حدّ له، لم تتأخر السلطات في اعتقال الفكاهي الفرنسي الساخر ديودوني مبالا مبالا بسبب تصريحه، عقب مشاركته في التظاهرة الضخمة في باريس رافعاً شعار "أنا شارلي كوليبالي"، بتهمة تشجيعه الإرهاب، وتعلن أكثر من مدينة فرنسية (ليموج ونيس وغيرهما) حظرها مسرحياته.
صحيح أن التفجيرات "حرَّرَت" الكلام في فرنسا، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بالشأن الأمني. فقد أصبح كل شيء يخضع للمساءلة، وعاد موضع العلمانية بقوة، وأصبح المُسلمون الحلقَة الأضعف في النقاش.
وفي تصريح يُعدُّ الأكثر تفهماً لقلق المسلمين في فرنسا، صرّح رئيس الوزراء السابق وعمدة بوردو، آلان جوبيه: "أقول لأصدقائي المسلمين نحن هنا لمساعدتكم وحمايتكم، ولكن عليكم تحمُّل مسؤولياتكم وفرض أنفسكم كمواطنين"، مطالباً "الجالية الإسلاميّة بأنّ تنظم نفسها بشكل أفضل، خصوصاً في موضوع تكوين الأئمة".
ويلمّح إلى أنّ عدد الأئمة الذين يجمعهم المجلس الفرنسي للديانة الفرنسية هامشيٌّ، بينما يتم استقدام الباقيين من الخارج، وأكثرهم لا يعرفون اللغة الفرنسية، مشيراً إلى ضرورة أن يتحدث الخطباء اللغة الفرنسيّة، وهو موقف لوبين نفسه.
في غضون ذلك، صدرت تصريحات داعية إلى التهدئة، أبرزها على لسان عمدة مسجد يورو الشيخ، طارق أوبرو، الذي قال إنّ "رسم الكاريكاتور ليس إلا كاريكاتوراً، ونحن في بلد حر، وبفضل هذه الحريّة، يمكن للمسلمين أن يعبّروا عن أنفسهم"، في وقت يؤكّد فيه رئيس المرصد الوطني ضد الاسلاموفوبيا، عبدالله ذكري، أنّه لن يدلي بأي تصريح مسيء، "لأننا لا نريد أن نصبّ الزيت على النار"، ملاحظاً في الوقت ذاته أنّ "الصحافيين ماضون في الاستفزاز".
من جهته، يذكّر الباحث المتخصص في محاربة الإسلاموفوبيا، محمد مروان، بأنه "في وقت تشير فيه الاستخبارات الفرنسية إلى أن ما يقرب من 90 مسجداً وقاعة صلاة في فرنسا موجودة بين أيدي متطرفين دينيين، يتعرض المسلمون في فرنسا إلى هجمات عنصريّة عدة". وينوّه بموقف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي "اعترفت بتنامي الإسلاموفوبيا في بلدها وتظاهرت مع المسلمين ضدها"، مطالباً "السلطات الفرنسية والطبقة السياسية بموقف جريء مماثل".
وفيما حظيت المعالجة الأمنية التي أعلنت عنها الحكومة والمتمثلة في نشر ما يقرب من 11 ألف عسكري على الأراضي الفرنسية، بتأييد مختلف الأحزاب السياسية بما فيها اليمين التقليدي، ذهب القيادي اليميني، كلود غيان، الوزير السابق في عهد الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، إلى حدّ مطالبة السلطات الفرنسية بفتح قنوات مع أجهزة الاستخبارات السورية.
ولم تتردّد مارين لوبين، في مطالبة الحكومة بخطوات أمنيّة أكثر جرأة، ومنها تجريد الضواحي من السلاح، ونزع الجنسيّة عن كل الفرنسيين الذين توجهوا إلى الجهاد، بالإضافة إلى وقف العمل بقوانين شينغين، ووقف سياسات التقشف التي تضعف الشرطة والجيش وأجهزة الاستخبارات".