تعرّفتُ على فرانكو زيفريللي الذي رحل قبل أيام في روما عن عمر يناهز ستة وتسعين عاماً، في "سينما أوغاريت" في حلب عام 1969 من خلال فيلمه "روميو وجولييت" الذي حاز على "جائزة الأوسكار كأفضل فيلم" في نفس العام. منذ ذلك الوقت، لم أتوقّف عن متابعة أعماله ما بين السينما والأوبرا والأفلام الوثائقية، وعلاوة على كل شيء آرائه التي لا تخلو من التطرّف أيضاً، ومن العبثية أحياناً أخرى.
ولد زيفريللي عام 1923 من علاقة غير شرعية بين أوتّورينو كورسي، تاجر أقمشة من مدينة فينشي، وألايدِهْ غاروزي تشيبرياني من مدينة فلورنسا. بسبب ذلك، قضى زيفريللي طفولة مضطربة خصوصاً مع الموت المبكر لأمه، ولعدم اعتراف والده به، وهو ما سيناله عندما يبلغ التاسعة عشرة من العمر. وبعد أن التحق بكلية الفنون الجميلة في فلورنسا، بدأ يعمل كسينوغرافي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مشرفاً على مشاهد مسرحية من إخراج لوكّينو فيسكونتي.
مرّت حياته بمراحل كثيرة، من أهمها ارتباطه الحميمي بفيسكونتي، وعلاقته المتوترة مع مدينته فلورنسا، وصداقته مع برلسكوني، وماضيه كمقاتل ليبرالي في حركة المقاومة الإيطالية. في هذا الصدد، كان لا يخفي أبداً كراهيته للشيوعيين: "لقد رأيت الشيوعيين يفعلون أشياء فظيعة، حتى أنهم أرادو قتلي، ولا أعتقد بأنهم تغيروا". هذا كان رأيه حول زملائه من الفنانين اليساريين، من روبرتو بنينيي إلى نانّي موريتّي.
كان رجلاً وسيماً، غنياً بجدارة ومحققاً للنجاح العالمي باستمرار، ولكنه كان مسكوناً بهوس أنه لم يتلق من النقاد ما يستحقه من إشادة وتقدير. كان يكرّر دائماً أن خطأه يكمن في رفضه نثر الملح أمام تمثال الإمبراطور: "هل تعرفون كيف فعل المسيحيون الأوائل هرباً من الاضطهاد؟ كانوا يؤدون التحية الرسمية لإله الأرض؛ وهو في عصرنا الحالي الشيوعية، أو اليسار. خذوا مثلاً لوكّينو فيسكونتي؛ هل يمكننا اعتباره شيوعياً؟ لقد رأيته يطرد اثنين من الخدم لأنهما نسيا تمشيط قططه السيامية. فلنكن واضحين: لقد قام بعمل جيد للغاية! أتذكر عندما كنا نصوّر فيلم "الأرض تهتز" في صقلية عام 1947، كنا نعيش بين أناس يعانون فقر القرون الوسطى. كان فيسكونتي يتحمّم مرتين في اليوم بالماء الساخن، وفي المساء كان يتناول الطعام على السرير، محاطاً بعناية خادمه الخاص".
في فيلّته التي كانت ملكاً لراقص الأوبرا الروسي رودولف نورييف، ومن ثم اشتراها برلسكوني، كان يحتفظ بصناديق تحتوي على جميع ملصقات الأفلام التي أخرجها، والتي قام ببطولتها ممثلات أميركيات وفرنسيات، من بروك شيلدز إلى فانّي آردان. صناديق تحمل عناوين مثل: "المسيح"، "هاملت"، "ستراودا"، "كابينيرا"، "ماريا كالاس إلى الأبد"، "حتى الجحيم"، لأنه كان يزمع إنجاز فيلم عن الكوميديا الإلهية لدانتي في مغارات تيمافو في سلوفينيا.
ولم يتوقف زيفريللي طيلة حياته عن مهاجمة اليسار وهيمنته على الثقافة، كما كان يدعي، وكان يسوق مثالاً على ذلك أن سيرته الذاتية ترجمت إلى اثنتي عشرة لغة لكنها لم تجد ناشراً إيطالياً، وأن فيلم "توسكانيني الشاب"، قوبل بالاستهجان في "مهرجان البندقية للسينما" عام 1988، يقول: "لم يكن أحد أفضل أفلامي، ولكنهم لم ينتظروا حتى أن يشاهدوه في المهرجان. لقد بدأوا يهمهمون حالما ظهر اسمي على الشاشة. في الثالثة بعد منتصف الليل بينما كنت بمفردي في الغرفة، محبطاً من الغضب، أمام زجاجة ويسكي، تلقيت مكالمة هاتفية، وصوت ودود يقول لي: "أشعر بالخجل من أن أكون إيطالياً. يجب أن ننقذ هؤلاء الناس من أنفسهم لأنهم لا يعرفون ما يفعلون"". كان سيلفيو برلسكوني! وهنا من الجدير أن نشير إلى أن زيفريللي التحق بحزب برلسكوني وأصبح عضواً في مجلس الشيوخ الإيطالي من 1994 إلى 2001.
المرة الوحيدة التي حظي فيها زيفريللي بإجماع من قبل منتقديه، كان عندما أنجز فيلم "فنجان شاي مع موسوليني" (1999)، وهو فيلم يروي قصة طفولته وتعليمه، ابتداء من كنيته، فيذكر: "كانت ولادتي فضيحة لكل فلورنسا، وفقدت أمي وأنا في السادسة من العمر. كنت أذهب ثلاث مرات في الأسبوع لتعلم اللغة الإنكليزية لدى السيدة ماري أونيل التي قدمتني إلى الجالية الأنكلوسكسونية في فلورنسا".
ويضيف في مكان آخر: "كانت هناك يهودية ثرية أميركية، قامت المغنية "شير" بتجسيد شخصيتها في الفيلم المذكور، وهي التي سدّدت ديون أمي بعد موتها فقط، وسمحت لي بمتابعة دراستي. وكانت هناك زوجة السفير البريطاني السابق في روما، وقد ظلّت مخلصة للفاشية حتى آخر أيامها، لأنها أنقذت إيطاليا من براثن الشيوعية. كنت مرتبطاً جداً بأستاذ القانون الروماني جورجيو لا بيرا الذي كان يعيش في دير سان ماركو. كان شخصاً مسالماً، وهو الذي أوضح لي على مراحل متعدّدة أن الإجهاض جريمة، وأن الاستبداد والفاشية والنازية والشيوعية متماثلة تماماً، غير أن الشيوعية أخطر من الجميع. وكان هو الذي طلب مني أن أصعد جبال الأبينين لمحارية النازيين والفاشيين، وأن أكون مستعداً دائماً لأمتشق سيفي وأدافع عن المسيح من أولئك الذين ينكرونه!". يُذكر أن زيفريللي أخرج فيلم "يسوع الناصري" عام 1976.
كان زيفريللي متحزباً ليبرالياً، وخاطر بالتعرّض إلى القتل من قبل المقاومين الشيوعيين، حيث قال: "لقد قتلوا قسّاً لأنه بارك جثث الفاشيين وألقوا بجثته في حفرة يستعملونها كحمام. وفي أحد الأيام، حاولوا نزع سلاحي، إلا أن مجموعة من البولنديين الذين فرّوا من أحد معسكرات الاعتقال، أنقذوا حياتي. لقد كانوا ينوون إطلاق النار عليّ من الخلف، كما اعتادوا أن يفعلوا، ليدعوا في ما بعد أنني سقطت قتيلاً في المعركة".
منحته الملكة إليزابيت الثانية لقب فارس حامل وسام الإمبراطورية البريطانية، وكانت آخر أعماله إخراج "لا ترافياتا" لجوزيبّهْ فيردي بثوب جديد على مسرح "دار الأوبرا" في روما عام 2007. ورغم شخصيته التي حملت الكثير من علامات الاستفهام، وأفكاره القريبة أحياناً من اليمين المتطرف، إلا أن أعماله السينمائية والأوبرالية تشهد على عبقرية جديرة بالإعجاب وإلمام كبير بالفن السابع وبالأوبرات الغنائية.