إن أحد أهم الإشكالات التي يواجهها الفكر العربي، أن التراث الذي يحدّد عادة ببداية عصر التدوين (213 هجري) إلى سقوط الأندلس، كان في مجمله إنتاجاً ذكورياً، بما في ذلك تفاسير القرآن والسنة، ولم يكن للمرأة أي مساهمة في إنتاج هذا التراث الذي عطّل دورها في بناء المجتمع، فظلّ حضورها تبعاً لذلك حضوراً هامشياً مؤطراً برؤية الرجل والمجتمع لها.
لقد ظلت الثقافة العربية تجتر ما أنتجته قبل قرون من الزمن وظلت الكتابة لعبة يتقنها الرجل فقط، أما الفكر فقد كانت بينه وبين المرأة أسلاك شائكة.
فاطمة المرنيسي (1940 - 2015) أحد أهم الأسماء التي حملت معولها واتجهت صوب هذا المنجز بهدف معلن هو خوض حرب استرداد كبرى لحضور المرأة وحقوقها.
مهمة المرنيسي كانت تبدو صعبة، بل مستحيلة، في ظل السياق المضطرب الذي وصلت به إلينا بعض النصوص، خصوصاً المتعلقة منها بالمرأة، لكن اللافت في حفريات المرنيسي أن توجّهها إلى التراث بمناهج غربية وبخلفية فكرية، لم تكن تستفز الخصوم بنفس القدر الذي قوبلت به مشاريع فكرية أخرى مشابهة، كان نقدها مراوغاً، لا يكشف نوايا سيئة بهذا التراث، تحاصره بضغط قوي لكنه ناعم في النهاية، وكانت تشترك مع خصومها في نفس منطلقات التفكير لكنها تختلف معهم في النتائج.
تقول في كتابها "الحريم السياسي؛ النبي والنساء"، من هن النساء المسلمات اللواتي قاومن الحجاب؟ إن أشهرهن سكينة إحدى حفيدات النبي (ص) ومن ابنته فاطمة، زوجة علي، الخليفة الراشدي الرابع الذي ترك الخلافة لمعاوية وكان قد جرى اغتياله من قبل أول "إرهابي" سياسي مسلم، وسيكون مصير أبنائه مأساوياً كمصيره وستشهد سكينة من جهة أخرى مذبحة والدها في كربلاء، وهذه المأساة تفسر جزئياً تمرّدها ضدّ الإسلام السياسي العاتي والمستبد وضد كل من ينتهك حرية الفرد بما في ذلك الحجاب".
تختار المرنيسي هنا الحديث عن الأسماء المألوفة، دون أن تفزع الخصوم والمتربصين، كانت تشتغل في سياقات لم تغادر قط إطار التفكير العربي، لهذا كانت كتاباتها تغير كل من يقرأها ولا تفتح حروباً مثل التي نراها ضد كل من يتبنى مواقف الدفاع عن المرأة.
على قدر قيمة اسم فاطمة المرنيسي، كان الحزن على فقدانها؛ كل تدوينات الكاتبات والكتاب المغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي تناقلت الخبر وسط حسرة كبيرة على رحيلها وعلى صعوبة تكرار اسم آخر بنفس القيمة.
في كلمتها إلى "العربي الجديد" اعتبرت الكاتبة المغربية زهور كرام رحيل صاحبة "خلف الحجاب" فقداً صعباً، فـ "لا يتعلق الأمر برحيل كاتبة عادية، حملت أوراقها وكتبها، ثم رحلت وفق منطق القدر، إنما الأمر أبعد من الرحيل الطبيعي-الوجودي. إنه رحيل خبرة في تشغيل العقل، وترتيب الذاكرة، واختراق الذهنية بجرأة مرنة عبر استعمال منهجية البحث العلمي، والدرس السوسيولوجي".
تضيف "فاطمة المرنيسي لم تكن صوتاً ثقافياً عادياً، أو مُستهلكاً للطروحات، إنما استطاعت أن تُنتج تميزها بعيداً عن المألوف. لهذا، يُصبح الرحيل مُضاعفاً، رحيل أستاذة أجيال ربَت فيهم حب المعرفة العلمية، واحترام البحث السوسيولوجي، ورحيل صوت ثقافي كان من مؤسسي الفكر المغربي، والمُناصرين للتنوير، والمُدافعين لاستعمال العقل في التعامل مع القضايا الشائكة".
وعن أهمية اسم المرنيسي ومشروعها الفكري تضيف كرام "إن أهمية المرنيسي تعود إلى قدرتها على تطويع الشرط التاريخي، لصالح شكل تفكيرها. عندما اشتغلت بقضية المرأة بجرأة فكرية وعلمية، ومن خلال الذهاب إلى التراث، والاقتراب من الدين بروح الجدال، لم يكن الشرط التاريخي والاجتماعي والفكري مهيّأ لاستقبال مثل أفكارها، لكنها، لم تُهادن الشرط، ولم تنتظر ركوب الموجة، حتى تتبع الخطوات، إنما غامرت بروح عزيمة العالم، والمفكر الذي لا يخشى الأسئلة، ولا يهاب الجدال. وتمكنت بفعل عزيمتها من أن تنتصر للمرأة المغربية موضوعاً وصوتاً وطريقة في التفكير. وأن تجعل المغرب صوتاً حاضراً بقوة في المنتديات العربية والعالمية بفضل طريقة تفكيرها في موضوع المرأة".
تعتبر كرام أن المرنيسي مكوّن أساسي من مكونات النخبة المغربية التي انتصرت لتفكيك الذاكرة الذهنية بإعادة ترتيبها ومُساءلتها وفق مرجعيتيْ البحث العلمي والفكر الفلسفي. وتتساءل كرام: "هل نستوعب معنى الرحيل عندما يكون في حجم مفكرتنا السوسيولوجية فاطمة المرنيسي".
تعدّ الراحلة من قبل قرّائها كاتبة فريدة كانت من الصنف الذي تشرّب ثقافة موسوعية، كانت لديها طريقة "ساحرة" في التعامل مع التراث ونقله، ومن حسن حظ القارئ العربي أن كتابات المرنيسي كانت تصل إلى العربية، بالرغم من تقاعس المترجمين.
وعن احتكاكها بحقل الأدب، تحدّث الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين إلى "العربي الجديد" قائلاً "إن فاطمة المرنيسي لم تغادر يوماً حقل الأدب، كل دراساتها عن قضايا النساء، وعن التصوّف وعن الإسلام الكلاسيكي، والحداثة ومفاهيم الحب والحريم بمثابة محكيات كبرى لا تفتأ دوائرها تتسع بانفتاح إدراك الكاتبة لمآزق المجتمع والمفكر الإسلاميين، حيث شكل الخبر والنادرة والحديث والشعر والحكمة والمثل زاداً رئيسياً لمفاصل التحليل المعرفي والسياسي في كتب من قبيل: "سلطانات منسيات"، "شهرزاد ليست مغربية" و"الحريم السياسي" وغيرها".
يضيف ماجدولين "ربما لأن المرنيسي تنتمي إلى عينة من المفكرين والدارسين المغاربة ممن أنتجهم سياق ثقافي ووطني استثنائي، ونظام تعليمي كفل لكثيرين منهم تعميق معارفهم في حقول شتى، قد تبدأ باللغويات ولا تنتهي بالتشريع الإسلامي، وربما لأن ولعها الأثيل بعوالم "الحريم" جعلها تغرق في اكتساب مهارات ذهنية وأدبية غير محدودة، نجحت في إبراز الجواري ("شهرزاد"، "تودد"، "مريم الزنارية"، "دنانير"، و"الورد في الأكمام"..) نماذج للعبقرية الإنسانية في اكتساب معارف النحو والمنطق والموسيقى والرقص، والفقه والتصوف، وتوظيفها في نسج الغواية.
في كتابها "هل أنتم محصنون ضد الحريم"، تحدّثنا المرنيسي عن حضور "الحريم" التاريخي للحريم في كل الثقافات الغربية القديمة، حتى قبل استقراره لدى العرب، تقول في إحدى صفحات الكتاب: "ليس العرب آباء الحريم، فقبل ظهور الإسلام كان العرب يعيشون في فقر مدقع لا يسمح لهم بالحصول على الحريم، بل كانوا يطمحون إليه تقليداً لجيرانهم البيزنطيين الأقوياء، باعتباره ترفاً. وبمجرّد ما وضعهم الإسلام في مصاف الدول العظمى حتى استوردوه كما نستورد السيارات الفارهة اليوم".