فاجعة فلسطين في "اليرموك"
هل نستطيع أن نفهم أحلامنا؟ هذا السؤال ليس بسيطاً، كما يبدو للوهلة الأولى، فكلنا يبصر أحلامه، ومع ذلك نتصرف وكأن ليس ثمة ما يدعو للعجب، حيال ما يجري في ذهننا المتيقظ، قياسا على منطق الأحداث التي تعصف بنا، والتي تتحكم في مصيرنا، لاجئين فلسطينيين لم نأل جهدا في سبيل الحصول على أشياء، رغبنا أن تمكننا من الصمود في مواجهة واقعٍ، انتقلت قساوته بنا من نكبة قبل سبعة عقود إلى نكبات متدرجة ومتدحرجة، وصولاً إلى فاجعة مخيم اليرموك.
حاولنا في عقود النكبة المنصرفة أن نعاين ما حولنا، وأن نُسخر لصالحنا استعادة تفاصيل الوطن، وأن ندون ملابسات الخذلان الرسمي العربي، وميوعته المدروسة والمنظمة، في محاصرة أحلامنا وقتلها، واحدة تلو الأخرى. وبمهارة التعامل مع ما هو واقعي، كان هناك شكل آخر من الوجود في المخيم، أبصرنا أحلاماً وتاريخاً ابتدعته وقائع انطلاقة ثورة، فاستيقظ لدينا شكل مختلف من الحضور، لمخيم عرف أروع قصص البطولة والعشق للوطن، هو الانتماء الذي تدلت من شرفات ذاكرته فرائس الرعب المنقضة على أحلامه. ولا تخضع فاجعة اليرموك لقوانين المنطق والأخلاق التي تحكم يقظتنا، من دون أحلامنا، وهي ترينا الأموات أحياء، والأحياء أمواتاً، عند شعارات طافت بفلسطين المحفوظة في صدور أبناء المخيم، والمشغلة في مستودع تركيب وتهذيب الفاجعة، إلى أن وجدنا تشابها بين أحلامنا والأساطير التي أسست لأحلامنا كلاجئين، تارة لن يسقط اليرموك، وأخرى لن يجوع ولن يحاصر ولن يدمر ولن يهجر ولن يقتل ولن يسبى ولن يعذب ولن يقصف بالصواريخ، ولن....
يقيناً تكتب الأحلام نفسها، ويقينا تعيش اليقظة ذاتها بمنطق الخاضع للمخيم، ومن ثم إلى فلسطين. مقولتان أساسيتان اعتمدت فيهما على ترابط شديد بينهما، وعلى خبرات معاشة بلورتها وجمعتها دفعة واحدة بالنسبة لقضيتك، يندرج في رزنامة نكبتك الرديئة، لتسبق فاجعتك باليرموك الخامس عشر من أيار، وتعطيه بعداً مأساويا إضافياً، حين يخترق خنجر الحصار الأسود ظهر نكبتك وفاجعتك في آن واحد، لا مسافات بينهم، ولا مقاسات الزمن تصح، وإنما بمقاسات القيم والأخلاق والحقوق واختلاف المواقع والأدوار التي خذلتك كلها، وجعلتك عارياً، فنكصت أحلامك على أعقابها.
بعد فاجعة اليرموك، تودع فلسطين الرسمية شعاراتها، وتغادر ثقافة الانتماء أمكنتها التي كانت محفوظة في مكتبات وصدور وعقول اللاجئين، كلهم مروا في اليرموك ومنه استمدوا قدرتهم على الفعل والاستمرار في رحلة المسيرة الطويلة للنكبة، استقرت أحلامهم في رام الله وبيروت وعمان ودمشق والقاهرة، بقي المخيم يزرع الندامة في نفوس أعدائه، فتمنوا له أن يلقى في ظلمةٍ لا تعكر مستقر الرحلة والراتب والرتبة، مسميات منهمكة في توصيف مأتمة اليرموك ليؤكدوا، مرة أخرى، أن "المؤامرة" ابتدأت من هنا. ومن هنا، تستمد المؤامرة دفقتها الجديدة، ذلك أن فلسطين المحصورة في الرتبة والراتب وحوانيت الحظوة الفصائلية تقع في وسطها. في هذه المرة أيضاً، كان أركان اليرموك المتذرع بالصبر إلى فلسطين يُخذل من جديد يتداعى صموده في اشتداد الحصار والدمار، يفرح الفهلويون بدورهم تغمرهم نشوة واضحة باهرة من دعشنة المخيم وأحلامه المقطوعة مع رؤوس تتدحرج في شوارعه، وجثث تسقط قبلا من جوع حصار وقتل.
لا ضرع ولا زرع في كل المواقف الخاذلة لفاجعة المخيم، كانت فلسطين النكبة الاولى، والمخيمات في بيروت وعمان سددت فاتورة عدم الانحناء والتطويع، واليرموك هو القسط الأخير من حساب الذئب الجائع لضحيته، نستغرق لا إرادياً في حلم عميق، وما أن نستفيق منه، حتى تسري في عروقنا رعشة من الألم المفزع. هل نحن المقصودين في بيانات رسمية "جماهير شعبنا الفلسطيني.. وأبناء شعبنا"، حين تدلى قواد المرحلة على عنق المخيم؟ بالطبع، لا حين غدر بالمخيم، وتلقفته كوابيس متلاحقة، تجول القاتل مختالاً بين أزقته، وعند تخوم حصاره شامتاً، وعلى أطرافه تنهار كل المحرمات والشعارات، لتبقى فاجعة فلسطين في مخيم اليرموك جزءاً أكثر خزياً من نكبة مستمرة، وأكثر فهماً من تنظيرات لن تعود إلى منابرها ولاجئيها.