المرأة في مخيم اليرموك.. حزن الأمومة
كانت عنوان الاحتفاء الرسمي، في الثامن من آذار/مارس من كل عام، تحتشد القاعات في المخيم، غسان كنفاني، خالد نزال، مجمع الخالصة، حلوة زيدان، النادي العربي،.. كلها تغص بنساء المخيم، يستمعن إلى خطب التنظيمات والفصائل، من اليمين واليسار، ويقدم لهن وجبات دسمة عن دورهن في إنجاب المناضلين ورعاية الأشبال والزهرات، ويأخذن نصيبهن من مواساة، كأمهات للشهداء، والشد على أيديهن، كرحم لا ينضب عن العطاء، رسخت فيها تراجيديا العطاء على مدار نصف قرن من عمر الثورة الفلسطينية. وهكذا صارت المرأة عنواناً وهوية في مناسبات الاحتفاء بها، وفي نصوص الخطاب، بحث دؤوب عن النصاعة والعدالة والجمال.
في مخيم اليرموك، تحولت طقوس الاحتفاء بيوم المرأة، إلى نقائض للحياة، منحها ذل الإهمال والحصار اليوم طعم العلقم، ورافقها حزن شفاف فوق وجهها، فلا زوج قريب ولا ابن ولا صديق. كل الأحزان على صدر المرأة في المخيم، أو من المخيم، شارة ووسام تدل عليها، كسرة الخبز أو حبة التمر أو نقطة الماء، بدائل زغرودتها، والرايات الملوحة في المهرجانات أصبحت نعوش أحلامها. وحيدة وحائرة امرأة المخيم، كلمات المخاطبة لها في الماضي التي أوحت مضامينها بما فاضت به مناسبات التفخيم بمناسبتها، أحيلت إلى دونية مطلقة ولنسيان خفي وخبيث، أين الندوات والاقتراحات والتوصيات التي تعني حماية "حارسات زيتوننا". في المخيم نساء بُخس بهن وبدورهن، ونساء تحولن إلى أرقام في الغياب، وإلى شهيدات في قاع المحيط. كل المكاسب التي كانت تليق بمكانتها ودورها انحصر في قدرتها على تحصيل كرتونة غذائية، والى طابور من الإذلال يمسح كل هذا التقليد الحضاري الفارغ عن "الحب" وما ارتبط بوشائج النضال وتسمياته، المرأة العاملة، المرأة المناضلة، الأسيرة، والمرأة التي تعاني استبداد الرجل والمجتمع، وكل تسمياتها التي طالت بنية المجتمع بأسره، تختزلها صورتها في اليرموك.
أي كلمات تليق بالمرأة في المخيم أو من المخيم، في يومها العالمي الحزين، من له أكثر مما لها صبراً وحزناً على مآلها من زوال القيم المنهارة عن نزعتها الإنسانية المتعملقة على رؤى السياسة والشعارات الحزبية المتغنية بيومها. تلف دورة الأيام وتأتي دونما سابق إنذار لتصبح مشاعر الخوف والقلق لحظات العمر كله، على الزوج والأخ والابن والحبيب، فما بقي للوطن تركته عند كراسات السياسيين والفصائليين، يرغون به على منابر كانت تحتوي على كلمات حرية وتحرر لنصف المجتمع.
يتسع حزن المرأة في مخيم اليرموك، أكبر من كل ما قيل، لينتقل من حالة رمزية إلى حالة الشكوى من آثار المعاناة، فأصبحت رمزا للصبر على طابور لقمة العيش، وأمست على حصار أشد صرامة وتهميشاً، ليصبح نصفنا ضعيفاً غير مؤثر، تسأل المرأة الفلسطينية عن مصدر القوة لبيانات الاحتفاء بها، فهي الأكثر إحساساً وشعوراً بخفاء الكلمات، كيف لا وهي تكدح في دائرة اللوعة، بحثا عن ابن وزوج وأخ وأخت. كلهم بالنسبة لها وطن غير الذي عرفه السياسي، ففي دائرة الجوع والشبع محور لا يراه غير نساء المخيم، تقيس به ومن خلاله أحلامنا المضطربة، لتفيض أحزانها على نصفها الآخر. امرأة مخيم اليرموك ونسوته كن مختبرا حقيقيا للميل نحو الصمت المفجع لقضية عميقة وصادقة وإنسانية، بعيدة عن جمالية سلعة البيانات والاحتفاء بيومها، فيومها هو الإنسان، نصفها الآخر زوج وابن، وأخ وأخت، ووطن منسوج من تعب الأشواك والحصار.