قد تكون فاتن حمامة (1931 - 2015) أكثر من ينطبق عليه وصف إدغار مورين، الفيلسوف والباحث في علوم الاجتماع، لنجوم الأفلام بأنّهم المعادل العلمانيّ في القرن العشرين للآلهة القديمة التي بناها الإنسان في أساطيره الأولى؛ وذلك للمكانة الوجدانيّة الكبيرة التي استطاعت أن تشكّلها بطلة "سيّدة القصر"، والمرتبطة بالدرجة الأولى بالطهارة والهالة الملائكيّة التي نسجتها بنجاح من حولها، عبر أرشيف سينمائيّ ممتدّ على مدار خمسة عقود من العطاء الفنيّ الخاصّ، تغيّرت فيه أنظمة سياسيّة، وأعلنت فيه ثورات وحروب، وبقيت هي سيّدة الشاشة.
تأتي أهميّة تجربة الفنانة المصريّة الراحلة في كونها من أوائل البطلات المرافقات لموجة الواقعيّة التي اجتاحت السينما المصرية مطلع الخمسينيات، واستطاعت، رغم صغر سنّها، وبذكائها الفنيّ، أن تكرّس نفسها في أفلام ميلودراميّة اعتياديّة مثّلتها منذ أواخر الأربعينيات وبداية العقد الذي تلاها، لتبدأ مرحلة الأفلام الهامّة التي جعلت منها وبجدارة سيدة الشاشة العربيّة، في أعمال مثل "صراع في الوادي" (1956) ليوسف شاهين، و"لا أنام" (1957) لصلاح أبو سيف، و"دعاء الكروان" (1959) لهنري بركات وغيرها.
نجحت حمامة من خلال تلك الأفلام في الخروج من النمط الذي كان سهلاً أن تبقى سجينته، وهو شخصيّة الفتاة الأرستقراطيّة "البيضاء"، التي غالباً ما تصفّق وتبكي على وقع أغاني حبيبها المطرب، لتثبت أنّ نجاحها ليس محض صدفة وأنّها قادرة على التلوّن، مطوّعةً، إلى جانب تلقائيّتها المعهودة في التمثيل، أحد أهم مقوّمات أدائها، وهو وقع صوتها الساحر، الذي أصبح "علامة مسجّلة" لصاحبته، لم يسرق منه مرور الزمن أثره الأخّاذ في الأذن العربيّة.
لا يمكننا الحديث عن بطلة "إمبراطوريّة مين" (1972) من دون الولوج إلى الجانب النسويّ الطاغي على أدوارها، كنموذج لفنانة وكصاحبة قضايا اجتماعيّة تطرحها في أفلامها. إذ يتجلّى اهتمام فاتن حمامة بالقضايا العصريّة للمرأة في المجتمع العربيّ في سبعينيات القرن الماضي، من خلال أعمال كالشريط الآنف الذكر، طرح وضع المرأة الأرملة المعيلة لأبنائها وبناتها، وسط محاولتها إيجاد رفيق درب جديد، في عمل لم يكن ثوريّاً بما فيه الكفاية كي يسمح لها بذلك، لكنّه بلا شكّ من الأعمال البارزة في السينما العربيّة عبر نقاشه للحريّات الفردية والعامّة في الأسرة والمجتمع.
وكانت النقلة اللافتة في تأثيرها على وضع المرأة في مصر من خلال فيلم "أريد حلّاً" (1975) لسعيد مرزوق، الذي تطرّق لقضيّة حقّ المرأة بطلب الطلاق، وكان له من الإسقاطات القانونيّة التي أجازت حق "الخُلع" للنساء في مصر، إضافة إلى أفلام من قبيل "أفواه وأرانب" و"لا عزاء للسيّدات".
وفي استكمال لمسيرتها السينمائيّة، يلحظ المتابع ظهور الكآبة في أعمالها منذ عقد الثمانينيات، متّجهة إلى دور المرأة الأكبر سنّاً والأكثر تعرّضاً للظلم، بما يناسب تقدّمها في العمر، في أعمال من قبيل "ليلة القبض على فاطمة" (1984) في آخر تعاون لها مع مخرجها ورفيق دربها هنري بركات، وفي تعاونها مع مخرجي الجيل الثاني من الواقعية مع خيري بشارة في "يوم حلو.. يوم مرّ" (1988)، وداوود عبد السيد في "أرض الأحلام" (1993) في آخر أعمالها السينمائيّة.
وإلى جانب مشروعها السينمائي العريق والجادّ، أثرَت الدراما التلفزيونيّة بأحد أهمّ أعمالها "ضمير أبله حكمت" (1991) والذي كتب قصّته وحواره أسامة أنور عكاشة، مناقشاً وضع التعليم في مصر والمشاكل الاجتماعية من فقر وفساد، وكأنّه استشراف للتفاقم الذي ازداد عاماً بعد عام، وجعل مصر في أمسّ الحاجة إلى الأمل الذي نادت به وتمنّته في آخر لقاءاتها المصوّرة والذي يعود إلى عام 2010، أي قبل ثورة يناير بأشهر معدودة، امتدحت فيه عهد السادات وأشارت إلى الخوف الذي عاشه المصريون في عصر جمال عبد الناصر، آثرت في السنوات الأخيرة لحكمه الابتعاد عن مصر والعيش في لبنان.
ورغم امتداحها مبارك في ذلك اللقاء الأخير، وكانت قد قاربت الثمانين، أضافت: "عِشرة برضه"، في تلميح قد يُفهم على أنّه بقي في منصبه أكثر ممّا ينبغي، خصوصاً أنها أيّدت في ذلك اللقاء تحديد مدّة الرئاسة.
بعد رحيلها، تغيب أيقونة أخرى، كان وجودها ملمحاً من ملامح الثقافة العربية الحديثة، ومؤشّراً لحقبة هامّة في تاريخ الأمّة، ستظلّ بأعمالها نموذجاً لمبدعة عربيّة جادّة في مشروعها الفنيّ.