غياب وعي في العراق

29 مايو 2014

عراقي يتفحص نتائج تصويت في مركز اقتراع(مايو 2014 أ.ف.ب)

+ الخط -

ما يزال حدث الانتخابات العراقية ساخناً، حيث الصراع على الموقع التنفيذي الأول، والتسابق من حول المراكز الرئاسية على أشده، وما تزال مسألة الديمقراطية في عالمنا العربي أكثر سخونةً، بعدما عرف أن "الربيع العربي" لم يكن سوى نكتة موسم كبيرة. وهكذا، يبدو الكلام في الديمقراطية في بلد مثل العراق، وهو أول من ابتكر لعبة الانقلابات العسكرية في عالمنا العربي، وأول من اكتوى بنارها، وعانى من الدكتاتوريات والنزعات الشمولية على مدى أكثر من نصف قرن، يبدو نوعاً من الترف الفكري، يلوذ به المثقفون والكتاب وأصحاب الرؤى الخاصة، فيما واقع الحال يسخر منهم، ومن طروحاتهم، وقد قدمت لنا الانتخابات الأخيرة ألف دليل على أن ما كل ما يتمناه المرء يدركه بجرة قلم، أو بشطحة لسان، أو بأوراق ترمى في صندوق، وقد رأينا في ماضي أيامنا كيف أن قراراً لمجلس ثورة، أو قائد أوحد، لا يستطيع أن يفك العقدة أو يغير الواقع، ولو صدر هذا القرار عن نية حسنة، والطريق إلى جهنم عادة ما يكون محفوفاً بالنيات الطيبة.
أفرزت الانتخابات العراقية ظواهر عديدة، أشدها بؤساً وأكثرها ضرراً غياب الوعي، وبروز الحس الطائفي لدى معظم الناخبين، وليس عند معظم المرشحين فحسب، هل أقول كل الناخبين وكل المرشحين؟ كنا، نحن الكتاب، ننكر ذلك، حتى الساعة الأخيرة قبل ظهور الدخان الأسود من أفران التصويت. كنا نقول إننا تخطينا الخلافات الطائفية والعرقية، وإننا شعب واحد، لا يقبل القسمة، وأحبطنا خطط الأميركيين والصهاينة وبول بريمر في أن نتفرق، بحيث يتوكأ بعضنا على طائفة، وبعضنا على عرق، وبعضنا على عشيرة أو مدينة، أو حتى على قرية صغيرة!
كذّبت الانتخابات ادعاءاتنا، وكشفت سوءاتنا، وجعلتنا ندرك أن كل ما قلناه محض هراء، وأثبتت لنا أن ليس بالتمنيات وحدها يحيا الإنسان، وليس بالانتخابات وحدها تبنى الديمقراطية، وأيضا ليس بالديمقراطية وحدها تبنى المجتمعات، وتقام الدول.
 ما أذهلنا أن مرشحاً معروفاً بعلاقته بإسرائيل، وزارها مرات ودعا إلى التطبيع معها، أحرز أصواتاً أهلته لعضوية البرلمان، فيما فشل مرشح اليسار الشيوعي في تحقيق ذلك، ولا نعرف ما سوف يقوله ياسر عرفات في قبره لو سمع بذلك. وكان العراق أول بلد عربي يطلق الصواريخ على إسرائيل، وماذا سيقول كارل ماركس، لو عرف أن مرشحه خسر الانتخابات في البلد الذي خرج فيه إلى الشوارع، قبل نصف قرن، مليون من أنصار حزبه الشيوعي، مطالبين بإعطائه السلطة؟
ما أذهلنا أيضاً أن مرشحاً كان يجيش الناس في مواكب لزيارة مرقد الحسين في كربلاء على حسابه، ليقسموا له هناك أنهم لن يمنحوا أصواتهم لغيره، وقد فعلوا، وآخر زعم لناخبيه أنه رأى، في منامه، رسول الله يوعز له بالترشح، وأن كل من يخذله سوف يكون مصيره النار، وقد صفق له ناخبوه وصدقوه وانتخبوه. وأيضاً أن مثقفاً يدعو إلى العلمانية، وينظّر للدولة المدنية، اعترف في لقاء صحفي بأنه أعطى صوته مكرهاً لمرشح طائفي معروف، بعد أن أقسم أمامه على (راية العباس) بأن يصوت له!
ما أذهلنا أكثر من ذلك أن مثقفين (!) أكاديميين وإعلاميين وكتاباً كانوا، إلى عهد قريب، ينكرون طائفيتهم، ويجهرون بعلمانيتهم، لكنهم، في الموسم الانتخابي، ركبوا المركب الذي ظنوه سهلاً، وجيروا أنفسهم لصالح هذه الطائفة، أو تلك، بحثاً عن مغنم أو امتياز! 
لقد وقع الأمر الجلل، وغاب الوعي، وصوّت الناخبون العراقيون على رؤوس الأشهاد للطائفة، وللعرق وللعشيرة، قبل أن يصوتوا للوطن (هل هناك حقاً وطن اسمه العراق، كي يعطوه أصواتهم؟)  
كل هذه الصور الغرائبية السوداء تفضح غياب الوعي لدى معظم الناس، وتكشف أنهم اعتادوا الخديعة وألفوها، حتى صدقوها وعملوا بها، وكان أن فقد المواطن العراقي حقه الشرعي في الاختيار الحر بإرادته، وتلك هي إحدى العقد المستعصية في أزمة بناء الديمقراطية، ليس في العراق فحسب، إنما في العالم العربي كله الذي تنعدم فيه إرادة سياسييه ومثقفيه للتغيير.


 صحيح أن لغياب الوعي جذوره التاريخية وخلفيته الاجتماعية، صحيح، أيضاً، أن عقوداً من الديكتاتورية والشمولية زرعت الطاعة العمياء لدى المواطن، وعلمته الخنوع والاستسلام، صحيح، أيضاً، أن السطوة الثيوقراطية الموروثة المستحوذة على عقل المواطن أفرغته من قدرته على التحليل وممارسة الاختيار الحر، لكن الأمور في المآل الأخير تقنعنا أن من يستحق اللوم في الملهاة التي تجري في العراق، وربما في أقطار عربية أخرى، هو المواطن الذي يحمل بؤسه على ظهره، ويعاني من "سبات العقل وقبح الزلل"، إلى درجة أن صوته لم يعد يساوي أكثر من بطانية، أو مدفأة نفطية، أو مقعد في حافلة متهرئة تأخذه لزيارة الحسين! 
ولا تعجبوا بعد ذلك، إذا ما أعيد إنتاج الديكتاتورية، وظهر "مخلص" جديد، يزعم أنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ البلاد والعباد!
اللهم إنا نعوذ بك، مع الإمام علي عليه السلام من "سبات العقل وقبح الزلل". 
    
    
    
   

 

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"