غوركي في الرحاب العُمانية

15 يونيو 2020
+ الخط -
يحقّ لقارئ الأدب الروسي الذي أهدى العالم كوكبة من المبدعين الكبار، شقّوا رافدا خالدا في الأدب الإنساني، يتميز بالتنوع والعمق والصفاء، يحقّ له التساؤل عن سبب ترجمة بعض الكتاب الروس إلى العربية، على أيدي مترجمين محترفين، سواء كانوا نقلوا الأعمال عن لغتها الأم، أو عبر لغة وسيط، كما حدث لدوستويفسكي وتولستوي، مع الترجمة اللافتة للراحل سامي الدروبي، في حين أهملت أعمال كتابٍ آخرين لا يقلّون أهمية، فتُرجمت بعشوائية، ولم تعكس ترجماتهم الصورة الحقيقية لآثارهم وإبداعاتهم. وربما أبرز مثال الترجمة المبتسرة والمؤدلجة التي طاولت أعمال مكسيم غوركي، فرواية "طفولتي" جاءت بلا اسم للمترجم، وروايتا "بين الناس" و"جامعياتي" تُرجمتا عبر لغة وسيطة، وبأسلوب لا يعكس ما يرتجع إلى الأذن العربية حول علو كعب غوركي في الأدب العالمي. قد يكون السبب ربط هذا الكاتب بحالةٍ سياسيةٍ مشتعلة، شديدة الاستقطاب، كالاشتراكية التي رفعها مريدوها إلى مصاف المقدّس، وأحطها خصومُها إلى درك الرجس. والنتيجة أن غوركي وأدبه ضاعا بين رحى المتخاصمين، حيث مورس عليهما ما يمكن تسميتها "إكراهات الترجمة"، حين وجه المترجمون أعمالهم لصالح مقاسات الواقعية الاشتراكية، بما فيها تلك الأعمال التي كتبت قبل الثورة البلشفية بسنوات! 
ولكن من حسن الحظ أن جوهر الأدب لا يذوي، وإن بقي خبيئا إلى حين، فأخيرا ظهرت إعادة لترجمة عملين من ثلاثية غوركي، قام بها الكاتب والمترجم العماني، أحمد م الرحبي، عن اللغة الروسية، هما "الطفولة" (باختلاف العنوان عن الترجمة الأولى) و"بين الناس" الذي صدر مطلع العام الحالي (2020)، وفي انتظار الجزء الثالث الذي سيحمل عنوان "جامعاتي"، وليس "جامعياتي" كما صدر في ترجمته الأولى. وفي قراءتي ما أنجر، اكتشفت أننا حيال غوركي مختلف تماما، نتحسّس من كتابته عمقا إنسانيا كان مضيّعا في الترجمات السابقة. ونقرأ حكمته البليغة عن الحياة والدين والإنسان، بنثر قوي، وجمل صارمة. كما نكتشف بوضوح حياة غوركي الزاخرة بالتجارب، والقسوة، والشظف، ونعيش معه شغفه بالمطالعة وحفظه الشعر، وقراءاته الواسعة في الآداب العالمية، وهو لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، وذلك، كما صوّرته "الطفولة" و"بين الناس"، في مجتمعٍ قاس إلى حدود خرافية، نحت فيه النظام الإقطاعي ألوان الاستغلال، وضروب السخرة، وأشكال الظلامية. أقول إنه من حسن الحظ أن يعود إلينا غوركي بحلةٍ جديدةٍ على يد مترجم عُماني، ذلك لأن تدفق الطاقات العربية إلى روسيا انقطع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فانحسرت معه ترجمة الأدب الروسي، وأمست احتمالية وجود جيل عربي جديد من المترجمين العرب عن الروسية، يحل محل رعيل المترجمين الأوائل، غير وارد كثيرا، سيما في غياب الحظوة التي كان المترجمون العرب في بلاد السوفييت ينعمون بها، حين كانوا يتلقون معاملة الدبلوماسيين، ناهيك عن إغلاق داري نشر التقدم ورادوغا، اللتين قدمتا للعالم العربي عربة باذخة تحوي عيون الأدب الروسي، وبأسعار زهيدة يستطيع طالب مدرسة أن يشتري من بضاعتها الذهبية بمصروفه اليومي.
وبمقارنةٍ سريعةٍ للترجمتين لكتاب الطفولة، نجد مثلا أن الترجمة الأولى لم تراعِ أمورا تقنية مهمة، يطيح غيابُها لحمة العمل برمته: نجد مثلا ملحمة شعبية نقلها غوركي، ثم أفاد في الهامش بأن لها نهاية مختلفة سمعها في قرية روسية نائية، وهذا دليل على المعرفة الشعبية الكبيرة لغوركي الذي قطع روسيا الشاسعة من أقصاها إلى أقصاها، للاقتراب من أرضه، والتزوّد من معين شعبه. في حين نسفت الترجمة القديمة هذا كله، فأصبحت بذلك مجرّد سياحة لغوية تختار ما تشاء، وتهمل ما يصعب اجتيازه. بينما لا يخفى على القارئ اجتهاد المترجم في الترجمة الجديدة، حيث تم نقل القصيدة مقفّاة، مع ترجمة الهامش الأصلي للكاتب، أي أن المترجم ظل واعيا بمقاصد الكاتب وتصرّف بأمانة، فجاءت ترجمته بمثابة إعادة اعتبارٍ لكاتب كبير، عبر لغةٍ عربيةٍ مبدعةٍ وملفتةٍ لكل من يقرأ المجلّديْن.
أفاد أحمد م الرحبي من إقامته الدائمة في موسكو في التشرّب من الثقافة الروسية، كما أنه يشكل ثنائيا متعاضدا مع زوجته المستعربة والمترجمة الروسية، فيكتوريا زاريتوفسكايا، ما يطمئن القارئ إلى ترجمةٍ حيةٍ وفيةٍ للأدب ومنصهرة به.. الأمر الذي انتبه إليه قرّاءٌ متمرّسون وكتبوا عنه.
دلالات
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي