غلوستر: حكاية موت وحياة مدينة

06 سبتمبر 2015
أميركا زاخرة بالأعراق والثقافات(Getty)
+ الخط -
شمال بوسطن، في الجهة الشرقية الشمالية، ترقد مدينة صغيرة هادئة اسمها غلوستر. شبه جزيرة تحيطها الأنهار ومياه المحيط من كل جهة. ووحده جسر الطريق رقم 128 شمالاً يربطها بالعالم. تحيطها الغابات والمروج بينما البيوت شيدت من خشب وأعواد، بين الصخور والأشجار متّحدة بهذا الفضاء الطبيعي الذي يشكل البحر قبلته.
تمر من شارع الماين ستريت فترى المباني متراصة بين ضفتي الشارع، مؤسسات بنكية ومطاعم وبائعي الملابس والأثاث القديم وبائعة الكتب. لا وجود لمدينة في أميركا بدون مكتبة. وفي القرى والبلدات الصغيرة تجد محلات بيع الأثاث القديم والتحف والكتب القديمة. لا مكان للماكدونالدز ولا للبرغر كينغ ولا لبانيرا بريد. مدينة البحر والسكينة والصمت والأمان. كل سكانها يتعايشون مع زرقة السماء والمحيط وحفيف الأشجار. لكل شيء فيها معنى. لكل قطعة خشبية لفظها البحر أو حجر صقلته أمواج المحيط حيّز في دائرة الفن والجمال. لا تغرب الشمس هنا. تشرق فقط.
وبين البحر والصخرة العظيمة سهل تقام فيه مواسم الرقص والغناء. أهازيج الهنود الحمر. طبولهم لا زالت تقرع مرة في العام كي تذكّر البحر والصخر أن دم الأجداد لا زال يسري ويحيا.. لا زالت ريشة الصقر توقع دلالة النصر والانتصار للحياة. وحين تجلس قبالة البحر ترى في البعيد الحاجز الصخري وسط البحر. خليج غلوستر. ميناء مدينة مشرعة على المحيط. مدينة تسكن زمناً بين صيف يعج بالحياة وشتاء بارد تهجره الحياة وترسو مراكب الصيد في الخليج وتتعطل الحركة ويجلس الصيادون في الحانات الضيقة على الجهة الخلفية من ماين ستريت. وككل الصيادين، في كل العالم، يشربون الأنخاب احتفاءً بولاداتهم المتجددة بعد كل عودة. جلّهم يلعبون ويشربون ويدخنون ويثرثرون. يختلقون الحكايا كي يملأوا حياتهم المعطلة..
الأطلسي ومراكب الصيد ومكتبة السيدة العجوز والآجر الأحمر وصوت النوارس ومرافئ الميناء القديم ورائحة السمك المشوي والموائد العامرة برواد المطاعم والمقاهي.
على الكورنيش الفاصل بين المتنزّه الشرقي حيث تنتصب الصخرة التي شهدت النزوح الأول للقادمين من وراء المحيط، كما تشهد على ذلك شاهدة نحاسية كبيرة وضعت عليها، والتلة الفاصلة بينه وبين الماين ستريت، ممر طويل تزينه الأعلام الوطنية وتمثالين نحاسيين متباعدين. الأول لامرأة تجر طفليها في اتجاه البحر وهي تنظر في البعيد والثاني تمثال لصياد ينظر إلى البحر وبين يديه مقود المركب. إنها حكاية قدر وألم لم تتخلّص المدينة من فجيعتها.
لا أحد يتحدث عن شارل أولصون شاعر المدينة الكبير الذي بصم الحياة الشعرية في أميركا. ولا أحد يتذكر حكاية الهندي الأحمر وحيرته ومقاومته وضياعه... فقط حكاية النحس الذي طارد صيادين من المدينة خرجوا ولم يعودوا ذات شتاء عاصف.
لن أنسى آخر مرة شاهدت فيها الفيلم وأنا في زيارة لصديقة في مدينة هامبتن في ولاية نيوهامبشر قبل سبع سنوات. وكانت تقول لي ونحن نشاهد علامات النحس التي كانت بدأت تظهر مع رحلة الصيد الأخيرة، "إنك تقرأ سوء الحظ من الأمارة الأولى... لكن حين يكون القدر قد أعد لك حكاية مدمرة فإن أول ما يفعله أنه يعمي بصيرتك ويشل عقلك وتستسلم له وكأنك تتواطأ معه ضد إرادتك!". كانت ماري تحكي لي عن حكاية بحارة غلوستر، بعد أن زرنا فندقاً صغيراً شبه مهجور في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام. وحين وقفنا أمام الحاجز الصخري في هامتن، كانت تشير بإصبعها جنوباً تحدد لي جهة مدينة غلوستر. بينما المدن البحرية الصغيرة تتشابه، وتتشابه منازلها في الليالي الباردة حين يتعرّى الشجر ويتسلّل من وراء زجاجها ضوء المصابيح الشاحبة التي توحي لك أن الحياة هجرة بين موسمين، بين قدرين، بين زمنين، بين حكاية يحكيها الصيادون وأخرى يحكيها البحر وثالثة تحكيها الأمهات.
لا شيء يتغيّر في غلوستر.. مدينة تحيا على إيقاع موسمين لا ثلاثة ولا أربعة. يبدأ الشتاء باكراً قبل أن يبدأ في باقي سواحل الشرق الأميركي. وحين تلتقي بأحد سكانها لا ترى في عينيه سوى معنى لبلاغة الحزن والألم. في الصيف كما في الشتاء. في وسط الغابة كما قبالة المحيط.
لا زال المركب الشراعي ينظّم رحلات في خليج كاب، ولا زالت تلك السفينة البيضاء تنظم رحلات داخل المحيط لمشاهدة الحيتان..
المساهمون