لا تكمن فرادة غسان كنفاني (1936 - 1972)، الذي تمرّ ذكرى استشهاده اليوم، فقط من كونه -ككاتب قصة وروائي وناقد- استطاع أن يستجيب للتجربة الجماعية من خلال تاريخه وتجربته الشخصية؛ ولكن من امتلاكه منظوراً سياسياً نضالياً مكّنه من تمثّل تجارب شعوب مختلفة في القرن العشرين، ضمن ظروف تاريخية وسياسية واقتصادية مروّعة.
من هنا، يمكن لمهاجر مكسيكي ملقىً على الحدود الأميركية اليوم أن يعتبر نفسه أسعد أو مروان أو أبو قيس في "رجال تحت الشمس"، يمكن لقصة كنفاني هذه أن تواصل تأثيرها وتجدد معناها مع توالي تراجيديات المهجّرين واللاجئين في السنوات الأخيرة، وهذا ما حدث فعلاً.
وربما يكون ما أعطى لـ "رجال تحت الشمس" هذا التفوّق على الزمان والمكان، أنها رواية عن الذهاب إلى المجهول، وعن تشارك ثلاث شخصيات من ثلاثة أجيال، هم أبطال الرحلة، في مصير واحد، شخصيات يسمعها القارئ طيلة العمل وهي تخوض في مونولوغ تحاول من خلاله أن تبرّر لنفسها البحث عن الخلاص الفردي.
و"رجال تحت الشمس" (1963) ليست فقط رواية الرحلة إلى المجهول، بل إنها إلى جانب "عائد إلى حيفا" (1969)، وحتى رواياته غير المكتملة؛ مثل "برقوق نيسان" (1972)، تفاسير لمعنى "أدب المقاومة"، ودور الأدب في المقاومة، وكيف يفهم كنفاني نفسُه المقاومة، الموضوع الذي كان محطّ دراسة كنفاني في بحوثه الأدبية أيضاً.
وهو الذي يظهر في المصير الذي يلقاه أسعد ومروان وأبو قيس بالموت في الخزّان، حيث الاتجاه الذي قطعه الثلاثة لتسوية أمور حياتهم كان الحل الفردي. وبحسابات مسار الرواية، فإن كل الدلائل تقول إنهم قد أخذوا الطريق الخطأ المحكوم بالفشل، وبدلاً من التوجّه من البصره إلى الكويت، كان عليهم التوجّه إلى فلسطين، لأن المقاومة مكانها هناك والحل في تسوية وضعهم الفردي لا يتحقق خارج الحل الجمعي.
وربما تكتسب "رجال في الشمس" أو "عائد إلى حيفا" أهمية إضافية من مهمّة اشتغل عليها كنفاني في تفاصيل السرد التي قدّمها وتلك التي تجنّبها، والتي قلّما اقترب منها روائيون فلسطينيون آخرون، وهو النقد الذاتي للفلسطيني لاجئاً وقائداً ومناضلاً. النقد الذاتي الفعلي وليس ذلك التحقير للذات وتمرير سرديات العدو تحت يافطة "النقد الذاتي" الذي يمارسه آخرون لم يصلوا مستوى كنفاني فنياً وسياسياً.
في يوم استشهاده تتجدد ولادة غسان كنفاني في الكتابة العربية المعاصرة، وتتجدد كذلك ولادته في مستقبل شعوب ما زالت في الطريق إلى حريتها.