هزّةٌ أرضية وسحابةٌ إشعاعية بارتفاع 2600 متر، ووميضٌ ضوئي يُرى على بُعد 650 كيلومتراً... كان ذلك هو المشهد في حمّودية برقّان، جنوب غرب الجزائر، في الثالث عشر من شباط/ فبراير 1960. في ذلك اليوم، أفاق سكّان تلك المنطقة الصحراوية على وقع تفجير نووي نفّذته السلطات الاستعمارية الفرنسية، وبلغ حجمُه ستّين كيلوطناً، وهو ما يُعادل قنبلة هيروشيما في اليابان بسبعين ضِعفاً.
كان التفجير، الذي بدأ الإعداد له منذ عام 1958 وحمل اسم "اليربوع الأزرق"، الأوّلَ ضمن سلسلة تجارب نووية قام بها الفرنسيّون في الصحراء الجزائرية، واستمرّت حتى عام 1966، أي بعد أربع سنواتٍ من استقلال الجزائر، وبلغت قرابة مئتَي تفجير بمقاييس متعدّدة في مناطق مختلفةٍ من الصحراء.
أدخل "اليربوع الأزرق" فرنسا نادي القوى النووية الذي لم يكن يضمّ حتى ذلك التاريخ سوى الولايات المتّحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي وبريطانيا. لكنّ ذلك تطلّب القيام بجريمة ضدّ الإنسانية؛ فالتفجير، الذي استخدم فيه الفرنسيّون 150 أسيراً جزائرياً كـ "فئران تجارب"، لا تزال إشعاعاته تحصد ضحايا إلى اليوم، ويُنتَظر أن تستمرّ آثارها المدمّرة للإنسان والطبيعة طوال 4500 سنةٍ مقبلة.
تُرى، كيف تبدو الحياة في تلك المناطق اليوم؟ هذا السؤال هو ما دفع الموسيقي والمصوّر الفرنسي غريغوري دارجون (1977) إلى الذهاب إلى رقّان في ولاية أدرار وعين إكّر في ولاية تمنراست، وقضاء عشرين يوماً فيهما خلال ثلاث زيارات لهما في 2017، كانت حصيلتها كتاباً فوتوغرافياً بعنوان "آش" (H)، رصد فيه مظاهر الحياة في بعض المناطق التي شهدت تفجيراتٍ نووية قبل قرابة ستّين عاماً.
"آش" هو عنوان مشروع يضمّ، بالإضافة إلى الكتاب الذي صدر العام الماضي عن Saturne édition، ألبوماً موسيقياً ومعرضاً فوتوغرافياً افتُتح الأربعاء الماضي في "فيلّا عبد اللطيف" بالجزائر العاصمة، ويستمرّ حتى بعد غدٍ الثلاثاء.
أمّا المقصود بالعنوان، بحسب تقديم المعرض، فهو عددٌ من الكلمات التي تبدأ بهذا الحرف في اللغة الفرنسية؛ مثل: إنسان، وهيدروجين، والهوقار، والتاريخ، والشرف، وهيروشيما، والتي تشكّل ثيماتٍ تلتقي في المشروع.
يضمّ المعرض قرابة عشرين صورةً بالأبيض والأسود، تُوثّق تفاصيل من الحياة اليومية في رقّان وإكّر وتقترب من ملامح الوجوه الإنسانية فيها. ثمّة صورٌ لأطفال وكهول بأزيائهم المحليّة، وأُخرى لحفلات شعبية، إلى جانب مناظر طبيعية تُظهر مساحات شاسعة في صحراء يعلو سماءها ضوءٌ وغبار مشعّ، كأنّ التفجيرات حدثت قبل قليل.
وُلد غريغوري دارجون، الذي كان والده جندياً في الجزائر، في باريس وعاش في ألمانيا قبل أن يعود إلى فرنسا وهو في الثامنة عشرة. هو في الأصل عازف على آلتَي القيثار والناي. أمّا التصوير الفوتوغرافي، فاكتشفه صدفةً وهو في السابعة والثلاثين من عمره، حين سمع - كما يقول في حوارٍ له - برنامجاً إذاعياً عن التفجيرات النووية في رقّان.
هكذا قرّر شراء كاميرا والذهاب إلى الصحراء الجزائرية التي كان يتصوّرها من خلال موسيقى التوارق التي سعى إلى تجسيد مشروع عنها. يقول: "إذا كانت الموسيقى التي كتبتها تمثّل خيالاً، فإنّ التصوير الفوتوغرافي، وبالتالي الرحلة، كانت ستجعلني في مواجهةٍ مباشرة مع الواقع".
لم تُثَر التجارب النووية الفرنسية في الجزائر إعلامياً إلّا في تسعينيّات القرن الماضي. وإلى اليوم، لا تحظى باهتمامٍ مقارنةً بتفجيرات نووية مشابهة. يقول دارجون: "أردتُ تصوير تلك الإشعاعات في رقّان، ومقابلة الأشباح في الصحراء. ذهبتُ إلى هناك للحديث عن صمتٍ شرّير".