يتزامن النمو الاقتصادي الثابت منذ عقود في الصين مع ظاهرة جديدة ومستجدة تماماً في تاريخ هذا البلد، ألا وهي تشكّل مجتمع من الجاليات المهاجرة القادمة من أصقاع المعمورة في مراكزه المدينية.
يخال المرء أن إمبراطورية الوسط غدت أميركا الجديدة بالنسبة للأوروبيين. ففي فرنسا على سبيل المثال، ما إن تثير الموضوع أمام شخص من الطبقة الشعبية حتى يكلّمك عن قريب أو صديق له يعمل هناك ومتزوج من صينية.
بالمقابل، يشكّل الأميركيون أنفسهم جالية كبيرة في الصين، وهو أحد البلدان القليلة التي يضطر فيها هؤلاء إلى إتقان لغة أهلها للعمل والعيش. وإن كان الغربيون يتصدّرون مشهد الهجرة هذا، فهم يبدون الأقل اندماجاً فيه.
بالطبع لا يجوز التعميم، لكنك تسمع الخطاب المتظلّم ذاته تقريباً على لسان العدد الأكبر من الغربيين المقيمين الذين تلتقيهم هناك: الصينيون عنصريون وشوفينيون ومنافقون بطبيعتهم.
وحين تحاول تذكير الفرنسي أو الإيطالي بأن أبناء المهاجرين في أوروبا هم كذلك في وضع لا يحسد عليه، فهو يعطيك غالباً الجواب نفسه الذي يعطيك إياه العرب المقيمون في فرنسا حينما تذكّرهم بأن العنصرية متفشية أيضاً في بلدانهم الأم: نحن (أي أنت وهو) على الأقل صريحون وعفويون في عنصريتنا، لكن الصينيين منافقون، هم يتبسّمون لنا ويخفون ما في قلوبهم.
المهاجر الغربي يحاول أن يتشارك مظلوميّته مع المهاجر العربي أو الباكستاني، هنا يضعه معه في "النحن" نفسها مقابل "الهُم" الصينية، بينما يضحك بقية المهاجرين حين يقارنون بين الترحيب الذي لاقوه في الصين مع الاستقبال البائس الذي يحظون به في الغرب، هذا لو استطاع اجتياز السور اللامرئي الذي بنته أوروبا حول نفسها في العقود الأخيرة.
يكتشف المرء بسرعة من خلال الاحتكاك بالمهاجرين الآخرين والمجتمع المحلي أن أحكام الغربيين لا سند لها، وهي إنما تنبع من حداثة عهدهم بالهجرة وعدم اعتيادهم التواجد في بلاد الآخرين طلباً للرزق.
في الواقع، فإن طباع الصينيين ليست إيكزوتيكية البتة (مفهوم أوروبي يشير إلى الغرابة الناتجة عن البعد) بل تشبه إلى حد بعيد طباع المتوسطيين، هم صاخبون وعاطفيون وانفعاليون ومحنّكون.
من جهة أخرى، هم يتشاركون نقاطاً عديدة مع المجتمعات الخارجة من الشيوعية في أوروبا الشرقية، أهمها طفرة الثقافة الاستهلاكية. وكما هو الحال في معظم المجتمعات الشرقية، يتجاور سحر الغرب في الوجدان الصيني مع جروح التجارب الاستعمارية.
تلمس بعض الانبهار بالثقافة الغربية لدى الفئات الميسورة وترى تلميذات جامعيات يتحرشن بالشباب الغربيين في البارات والشوارع، وهو أمر يتباهى به أولئك أنفسهم الذين يشتكون من عنصرية الصينيين، ويفسّرونه بأن الصينيات يفضلن الشاب الغربي لأنه "جنتلمان".
بالمقابل، تسمع في الأوساط الصينية المثقفة نكاتاً حول شوفينية الغربيين وهوسِهم بالهويات والقوميات والتصنيفات، كما تلمس لدى الأوساط الشعبية الصينية تعاطفاً أكبر مع أبناء العالم الثالث، فالبائع المنغش ببشرتك البيضاء قد يداريك ويرخّص لك السعر عندما يعرف أنك لبناني.
بالطبع، وكما في كل مكان آخر، ثمة عنصريون وقومجيون بين الصينيين، لكن المهاجرين الغربيين يميلون إلى التعميم أكثر من غيرهم. في الواقع، الموضع الوحيد الذي تلمس فيه أحكاماً عنصرية معمّمة في المجتمع الصيني هو حيال الأفارقة السود، لكن هذا لا يمنع أن المهاجر الأكثر اندماجاً في هذا المجتمع بين كل الذين التقيت بهم هناك كان شاباً بوروندياً.
وفقاً له، عنصرية الصينيين نحو الأفارقة بدائية وعفوية ولذا يسهل عليهم تخطيها عندما يتعرفون عليك، في حين أن عنصرية الأوروبيين مبطّنة ومتجذرة. أما في ما يتعلق بالعرب، فيستغرب المرء أن صورتهم الأصلية في الذاكرة الجماعية الصينية تحيل إلى قوافل التجار، في حين تحيل صورة الغرب إلى الإرساليات المحمولة على ظهور المدافع.