شكل مسلسل "غداً نلتقي" حالة خاصة (وربما استثناء) في خارطة الدراما التلفزيونية السورية والعربية، وقد حظي بحالة إجماع نقدي وجماهيري واسعة، ولكن ما الذي يجعله استثنائياً بهذا القدر؟
عمق الحكاية وملامستها للجانب الحار من الواقع السوري وقدرتها على تجاوز الألغام في معالجة هذا الواقع ورمزيتها العالية وجماليات مقولاتها، ربما يشكل مدخلاً لفهم حالة الإجماع التي نالها المسلسل. إلا أن ذلك ليس كل أسبابها، فقد سبق ونال عدد من المسلسلات التلفزيونية السورية الحالة ذاتها من الاحتفاء النقدي والجماهيري ومن الظلم أن نتجاهلها، لنرفع "غداً نلتقي" دون سواه إلى درجة الاستثناء لمضمونه فقط.
في الغالب يمكن رد حالة الاستثناء التي تميز بها "غداً نلتقي" لاكتمال معادلة صناعته بين الكتابة والإخراج والتمثيل والإنتاج، وتفوق العناصر الأربعة على شروط العمل التلفزيوني السائد أولاً وعلى نفسها ثانياً، ونجاحها بالخروج من دائرة الاستهلاك والتشابه، لا على صعيد المضمون وحسب وإنما على صعيد الصورة أيضاً.
أربع قواعد نجد أن "غداً نلتقي" نجح عبرها كمسلسل تلفزيوني مختلف، بغض النظر عن مضمونه، هي آلية كتابته والقصدية فيها، وبناؤها السينمائي، مضموناً وصورة، والموازنة بين اشتراطات تنفيذها واشتراطات الحالة الإنتاجية.
الشغل على المشهد
يتألف السيناريو من وحدات درامية هي المشاهد، والمشهد يتألف من لقطة أو أكثر، وهو يؤدي دوراً مزدوجاً، الأول عام يتمثل بالمشاركة في بناء جسد الحكاية وشخوصها ودفعها نحو نهايتها حيث تكتمل مقولاته العامة وأهدافه، أما الدور الثاني فهو خاص، حيث يفترض أن يؤدي المشهد أهدافاً جزئية، تتعلق بالأحداث أو الشخصيات، وببلوغ ذرى درامية، أو حل تأزم عقدتها، وبمقدار ما يحتشد المشهد بأهداف خاصة، بمقدار ما يمتاز بطاقة درامية عالية، وهذه الأخيرة قلما تتوافر في مشاهد متتالية في العمل الواحد.
وما من مكان للحكي في "غداً نلتقي" من دون هدف واضح سواء لذاته (التعبير) أوللآخرين (التغيير). ولا طغيان للحكي على الفعل الدرامي، فهذا الأخير يبقى هو السائد، حتى يكاد يغيب الحكي أحياناً لصالحه، وإلا ما معنى وجود شخصيتين في العمل فاعلتين بلا كلام، الأولى هي الشخصية التي أداها الفنان محمد حداقي وقد شكلت خطاً درامياً قائماً بذاته في العمل وتقاطعت وخط عائلة إيهاب وخلود، أما الشخصية الثانية فهي شخصية "أم إيهاب" التي أدتها الفنانة فاتن شاهين، بلا كلام ولا حركة، ولكنها اختزنت طاقة رمزية في العمل.
ووفقاً لما سبق فإن الجديد في العمل هو عملية تفكيك خضعت لها تلك المشاهد، فأبقت على أهدافها الخاصة والعامة، وأعيد بناؤها من جديد، على نحو بدا كثير من المشاهد كما لو أنها عمل قائم بحد ذاته رغم أنها لا تنفصل عن السياق العام لبقية المشاهد.
البناء السينمائي
لا تكتفي إعادة البناء التي خضعت لها مشاهد "غداً نلتقي" بفعل الكتابة على الكتابة، وإنما هي تقوم بكتابة سيناريو تلفزيوني لصورة سينمائية، وقد حافظ الفنانان إياد أبو الشامات ورامي حنا على مواصفات الكتابة الدرامية للتلفزيون في عملهما، ولكنهما عادا ليشتغلا عليه، أي السيناريو، كما لو أنه معد للتصوير السينمائي، وذلك باشتغالهما على التفاصيل الدقيقة ضمن المشهد الواحد، ولقطة تلو أخرى، مقابل الاستغناء عن كل ما يمكن للمشاهد أن يستنتجه ويدركه ضمن هذا المشهد دون أن يراه، فضلاً عن التخلي عما يعرف بالمشهد الجسر، الذي يلجأ إليه عادة في المونتاج لتبرير مرور الوقت بين مشهدين مستمرين.
وفق هذا الأسلوب من العمل أنتج الثنائي (حنا-أبو الشامات) مادة تلفزيونية مختزلة ومكثفة على الطريقة السينمائية، خالية ما أمكن من حشو وثرثرة ومشاهد تمهيدية.
اقرأ أيضاً: مكسيم خليل: "غداً نلتقي" رسالة قوية عن الوضع السوري
وما تم إنجازه على الورق بفكر سينمائي، سيستكمل أثناء التصوير عبر سرد بصري سينمائي، وتقطيع مونتاجي متناغم، وقد باتت المشاهد التلفزيونية تقبل أي استعارة يريدها رامي حنا، مخرجاً، من أسلوب التصوير السينمائي المعتاد، فلا يكتفي منه بالتصوير بالكاميرا الواحدة وحسب، لقطة بلقطة، وإنما يتجاوز ذلك عبر الإضاءة ومستوياتها ودلالتها وعمق الكادر والمونتاج.
القصدية في الكتابة
المستوى الثالث من الكتابة كان في ما يصطلح على تسميته بـ "القصدية في الكتابة"، وهو ما عرفناه بشكل واضح في أسلوب الفنان الراحل نهاد قلعي حين كان يقوم بكتابة دور معيّن لصالح ممثّل بعينه، أو يعمل على تدوير سلوك الشخصيات ومساراتها وتطويرها وفقاً لأداء ممثليها على نحو يستفيد من مقدراتهم التمثيلية ومرونة أدائهم في تجسيدها.
الحديث على هذا النحو عن "القصدية في الكتابة" لا يعني أن الثنائي (أبو الشامات - حنا) كتبا لأسماء تمثيلية بعينها، ولا ينفي في الوقت ذاته احتمال أنهما كتبا وفي مخيلتهما وجوه تمثيلية بعينها لتأدية شخصيات العمل، ولكن المؤكد أنهما كتبا عن شخصيات يعرفونها، حتى لو لم يلتقياها، شخصيات افتراضية ربما، ولكن لها ظلالها الحقيقية في الشارع، تتقاطع همومها مع هموم الناس اليومية وقضاياهم.. وهو الأمر الذي يجعلها قريبة من الممثلين والناس على حد سواء، بل ويبلغ الإحساس بها ومصداقيتها وواقعيتها حد اعتقاد الممثل جازماً أنها كتبت له، وذلك الإحساس سيتكامل بلاشك مع إسناد مهمة تجسيد تلك الأدوار، لذات الوجوه التي راودت مخيلة ثنائي الكتابة.
كمشاهد كان من الصعب على سبيل المثال، التفكير بأن دور "أبو ليلى" كُتب لممثل آخر غير الفنان تيسير إدريس، فشخصية اللاجئ الفلسطيني السّوري، التي قدمها العمل، تتقاطع من حيث البناء العام، وعلى نحو كبير، مع فلسطينيي إحدى القرى الفلسطينية المعروفة باسم الطيرة. فكيف لتيسير إدريس ابن قرية الطيرة الفلسطينية ألا يمتلك اليقين بأن هذه الشخصية كتبت له، وفيها شيء يخصه؟
مدة التصوير
من الطبيعي أن يؤدي الذهاب باتجاه اللغة السينمائية في تنفيذ مسلسل "غداً نلتقي" إلى أن يستغرق العمل مدة تصوير أكبر من المعتاد في تصوير مسلسل تلفزيوني اجتماعي وهو الأمر الذي لا يبدو متاحاً دائماً ضمن الشروط الإنتاجية التي تنفذ فيها الدراما التلفزيونية اليوم. ولعل النتيجة التي خلص إليها المسلسل من شأنها أن تدعونا لإعادة النظر في الاشتراطات الإنتاجية المعمول بها اليوم، على نحو يتيح لصناع الأعمال الدرامية التلفزيونية الذهاب باتجاه اللغة السينمائية في أعمالهم التلفزيونية، ففي ذلك ما يضمن شكلاً فنياً مميزاً وسوية فنية مختلفة على الأقل، ولعلها على هذا النحو تنقذ ما يمكن إنقاذه من حالة الانهيار التي تشهدها الدراما التلفزيونية العربية اليوم.
اقرأ أيضاً: "غداً نلتقي" بساطة المفردات أدّت لتفاعل الجمهور
عمق الحكاية وملامستها للجانب الحار من الواقع السوري وقدرتها على تجاوز الألغام في معالجة هذا الواقع ورمزيتها العالية وجماليات مقولاتها، ربما يشكل مدخلاً لفهم حالة الإجماع التي نالها المسلسل. إلا أن ذلك ليس كل أسبابها، فقد سبق ونال عدد من المسلسلات التلفزيونية السورية الحالة ذاتها من الاحتفاء النقدي والجماهيري ومن الظلم أن نتجاهلها، لنرفع "غداً نلتقي" دون سواه إلى درجة الاستثناء لمضمونه فقط.
في الغالب يمكن رد حالة الاستثناء التي تميز بها "غداً نلتقي" لاكتمال معادلة صناعته بين الكتابة والإخراج والتمثيل والإنتاج، وتفوق العناصر الأربعة على شروط العمل التلفزيوني السائد أولاً وعلى نفسها ثانياً، ونجاحها بالخروج من دائرة الاستهلاك والتشابه، لا على صعيد المضمون وحسب وإنما على صعيد الصورة أيضاً.
أربع قواعد نجد أن "غداً نلتقي" نجح عبرها كمسلسل تلفزيوني مختلف، بغض النظر عن مضمونه، هي آلية كتابته والقصدية فيها، وبناؤها السينمائي، مضموناً وصورة، والموازنة بين اشتراطات تنفيذها واشتراطات الحالة الإنتاجية.
الشغل على المشهد
يتألف السيناريو من وحدات درامية هي المشاهد، والمشهد يتألف من لقطة أو أكثر، وهو يؤدي دوراً مزدوجاً، الأول عام يتمثل بالمشاركة في بناء جسد الحكاية وشخوصها ودفعها نحو نهايتها حيث تكتمل مقولاته العامة وأهدافه، أما الدور الثاني فهو خاص، حيث يفترض أن يؤدي المشهد أهدافاً جزئية، تتعلق بالأحداث أو الشخصيات، وببلوغ ذرى درامية، أو حل تأزم عقدتها، وبمقدار ما يحتشد المشهد بأهداف خاصة، بمقدار ما يمتاز بطاقة درامية عالية، وهذه الأخيرة قلما تتوافر في مشاهد متتالية في العمل الواحد.
وما من مكان للحكي في "غداً نلتقي" من دون هدف واضح سواء لذاته (التعبير) أوللآخرين (التغيير). ولا طغيان للحكي على الفعل الدرامي، فهذا الأخير يبقى هو السائد، حتى يكاد يغيب الحكي أحياناً لصالحه، وإلا ما معنى وجود شخصيتين في العمل فاعلتين بلا كلام، الأولى هي الشخصية التي أداها الفنان محمد حداقي وقد شكلت خطاً درامياً قائماً بذاته في العمل وتقاطعت وخط عائلة إيهاب وخلود، أما الشخصية الثانية فهي شخصية "أم إيهاب" التي أدتها الفنانة فاتن شاهين، بلا كلام ولا حركة، ولكنها اختزنت طاقة رمزية في العمل.
ووفقاً لما سبق فإن الجديد في العمل هو عملية تفكيك خضعت لها تلك المشاهد، فأبقت على أهدافها الخاصة والعامة، وأعيد بناؤها من جديد، على نحو بدا كثير من المشاهد كما لو أنها عمل قائم بحد ذاته رغم أنها لا تنفصل عن السياق العام لبقية المشاهد.
البناء السينمائي
لا تكتفي إعادة البناء التي خضعت لها مشاهد "غداً نلتقي" بفعل الكتابة على الكتابة، وإنما هي تقوم بكتابة سيناريو تلفزيوني لصورة سينمائية، وقد حافظ الفنانان إياد أبو الشامات ورامي حنا على مواصفات الكتابة الدرامية للتلفزيون في عملهما، ولكنهما عادا ليشتغلا عليه، أي السيناريو، كما لو أنه معد للتصوير السينمائي، وذلك باشتغالهما على التفاصيل الدقيقة ضمن المشهد الواحد، ولقطة تلو أخرى، مقابل الاستغناء عن كل ما يمكن للمشاهد أن يستنتجه ويدركه ضمن هذا المشهد دون أن يراه، فضلاً عن التخلي عما يعرف بالمشهد الجسر، الذي يلجأ إليه عادة في المونتاج لتبرير مرور الوقت بين مشهدين مستمرين.
وفق هذا الأسلوب من العمل أنتج الثنائي (حنا-أبو الشامات) مادة تلفزيونية مختزلة ومكثفة على الطريقة السينمائية، خالية ما أمكن من حشو وثرثرة ومشاهد تمهيدية.
اقرأ أيضاً: مكسيم خليل: "غداً نلتقي" رسالة قوية عن الوضع السوري
وما تم إنجازه على الورق بفكر سينمائي، سيستكمل أثناء التصوير عبر سرد بصري سينمائي، وتقطيع مونتاجي متناغم، وقد باتت المشاهد التلفزيونية تقبل أي استعارة يريدها رامي حنا، مخرجاً، من أسلوب التصوير السينمائي المعتاد، فلا يكتفي منه بالتصوير بالكاميرا الواحدة وحسب، لقطة بلقطة، وإنما يتجاوز ذلك عبر الإضاءة ومستوياتها ودلالتها وعمق الكادر والمونتاج.
القصدية في الكتابة
المستوى الثالث من الكتابة كان في ما يصطلح على تسميته بـ "القصدية في الكتابة"، وهو ما عرفناه بشكل واضح في أسلوب الفنان الراحل نهاد قلعي حين كان يقوم بكتابة دور معيّن لصالح ممثّل بعينه، أو يعمل على تدوير سلوك الشخصيات ومساراتها وتطويرها وفقاً لأداء ممثليها على نحو يستفيد من مقدراتهم التمثيلية ومرونة أدائهم في تجسيدها.
الحديث على هذا النحو عن "القصدية في الكتابة" لا يعني أن الثنائي (أبو الشامات - حنا) كتبا لأسماء تمثيلية بعينها، ولا ينفي في الوقت ذاته احتمال أنهما كتبا وفي مخيلتهما وجوه تمثيلية بعينها لتأدية شخصيات العمل، ولكن المؤكد أنهما كتبا عن شخصيات يعرفونها، حتى لو لم يلتقياها، شخصيات افتراضية ربما، ولكن لها ظلالها الحقيقية في الشارع، تتقاطع همومها مع هموم الناس اليومية وقضاياهم.. وهو الأمر الذي يجعلها قريبة من الممثلين والناس على حد سواء، بل ويبلغ الإحساس بها ومصداقيتها وواقعيتها حد اعتقاد الممثل جازماً أنها كتبت له، وذلك الإحساس سيتكامل بلاشك مع إسناد مهمة تجسيد تلك الأدوار، لذات الوجوه التي راودت مخيلة ثنائي الكتابة.
كمشاهد كان من الصعب على سبيل المثال، التفكير بأن دور "أبو ليلى" كُتب لممثل آخر غير الفنان تيسير إدريس، فشخصية اللاجئ الفلسطيني السّوري، التي قدمها العمل، تتقاطع من حيث البناء العام، وعلى نحو كبير، مع فلسطينيي إحدى القرى الفلسطينية المعروفة باسم الطيرة. فكيف لتيسير إدريس ابن قرية الطيرة الفلسطينية ألا يمتلك اليقين بأن هذه الشخصية كتبت له، وفيها شيء يخصه؟
لم يعكّر نجاح العمل موجة التحريض ضد كاتبه ومخرجه والتي خاضتها قناةmtv اللبنانية، بعدما وصفت مسلسل "غداً نلتقي" بالعنصري ضد اللبنانيين، فقط لأنه سلّط الضوء على ممارسة قسم من اللبنانيين العنصرية والتمييز ضد اللاجئين السوريين في البلاد. لكن سرعان ما قوبلت mtv برد لاذع من قبل لبنانيين وسوريين، فخفت الموضوع، وتابع العمل عرضه الناجح.
مدة التصوير
من الطبيعي أن يؤدي الذهاب باتجاه اللغة السينمائية في تنفيذ مسلسل "غداً نلتقي" إلى أن يستغرق العمل مدة تصوير أكبر من المعتاد في تصوير مسلسل تلفزيوني اجتماعي وهو الأمر الذي لا يبدو متاحاً دائماً ضمن الشروط الإنتاجية التي تنفذ فيها الدراما التلفزيونية اليوم. ولعل النتيجة التي خلص إليها المسلسل من شأنها أن تدعونا لإعادة النظر في الاشتراطات الإنتاجية المعمول بها اليوم، على نحو يتيح لصناع الأعمال الدرامية التلفزيونية الذهاب باتجاه اللغة السينمائية في أعمالهم التلفزيونية، ففي ذلك ما يضمن شكلاً فنياً مميزاً وسوية فنية مختلفة على الأقل، ولعلها على هذا النحو تنقذ ما يمكن إنقاذه من حالة الانهيار التي تشهدها الدراما التلفزيونية العربية اليوم.
اقرأ أيضاً: "غداً نلتقي" بساطة المفردات أدّت لتفاعل الجمهور