غارث فودن.. ضد مغالطات النظرة الأوروبية

27 يناير 2015
انعكاسات من "قصر الحمراء"
+ الخط -

يواجه العالم اليوم، شرقاً وغرباً، تحدّيات لا حصر لها؛ يأتي على رأسها - من وجهة النظر الأوروبية على الأقل - تحديان رئيسيان: ألا وهما التحدي الاقتصادي والتحدي الفكري. وإذا كان التحدي الاقتصادي هو تحدّ آسيويّ في الأساس (الصين والهند)، فإن التحدي الفكري هو تحدّ عربي-إسلامي خالص.

في خضم هذه التحديات، تطلّ علينا فكرة دور الإسلام، دينياً وثقافياً، في مسيرة التاريخ بشكل ملتبس يزيد من تعقيد المسألة أكثر من تقديمه حلولاً لفهم طبيعة تعقيدات وتشابكات الحاضر الذي نعيشه اليوم. هذا الالتباس، الذى يشترك فيه الشرق والغرب على السواء، ناتج من وجهة نظر غارث فودن مؤلف كتاب "العالم قبل وبعد محمد" الصادر عن دار نشر جامعة برنستون (2014)، عن الرؤية الأوروبية "المغالطة" لمجمل التاريخ البشري، وخاصة وضع الإسلام في مسيرة هذا التاريخ.

وفقاً لهذه الرؤية، يصبح التاريخ عبارة عن "عصور قديمة عتيقة" تجسّد المثال الذى ينبغي أن يُحتذى به. لتأتي بعدها "عصور وسطى" تمثل تدهور وانحلال القيم والأخلاق التي بنيت عليها هذه الحضارات العتيقة. ثم يأتي "العصر الحديث" الذى يبدأ بنهضة أوروبية في الأساس، والتي اتخذت من العتيق مثالاً اقتفت أثره وخلفت وراءها، كما تدّعي، قيم العصور الوسطى المتخلفة.

لدى تقسيمهم لهذه العصور، عمد المؤرخون الأوروبيون إلى استخدام التقويم الميلادي. وبناء عليه، قالوا بأن العصر العتيق يمتد منذ اختراع الكتابة في مصر، في الألف الرابع قبل الميلاد، وحتى القرن السابع بعد الميلاد على أقصى تقدير. وبذلك يضمّ هذا العصر كلاً من الحضارة المصرية القديمة وحضارات بلاد الرافدين وبلاد فارس، ثم الحضارة اليونانية-الرومانية والتي تتمثل ذروتها في الإمبراطورية الرومانية وعصر مؤسسها أغسطس الذي وحّد تحت سيطرته كل المناطق المطلة على البحر المتوسط. ويمكن اختصار مجموع القيم التي بنيت عليها هذه الحضارات في القانون الروماني والفلسفة اليونانية والمنظومة القيمية اليهودية-المسيحية، والتي اتخذ منها الغرب قواعد صارمة للسلوك المحدد للعلاقات.

أما العصور الوسطى، فتبدأ - بناء على وجهة النظر هذه - بتدهور هذه القيم داخل الإمبراطورية الرومانية، مما أدى إلى انقسامها في نهاية المطاف إلى إمبراطورية شرقية يعرفها المؤرخون المحدثون باسم الإمبراطورية البيزنطية، وأخرى غربية يعرفها المؤرخون المحدثون باسم الإمبراطورية الرومانية الغربية.

يستمر هذا التدهور والانحلال شرقاً وغرباً منذ القرن السابع الميلادي إلى أن تسقط هذه الإمبراطورية - ولاية تلو الأخرى - على يد العرب المسلمين في الشرق، وعلى يد البرابرة في الغرب. وينتهي هذا العصر بسقوط آخر معاقل هذه الإمبراطورية، أي القسطنطينية، على يد محمد الفاتح في القرن الخامس عشر ميلادي.

هنا، سرعان ما يبدأ عصر النهضة، الأوروبي بامتياز، بداية من القرن الخامس عشر حتى يوم الناس هذا. بهذه الطريقة يُدرّس ماضي البشرية كلها في مدراس وجامعات الغرب. يشير المؤلف إلى أن هذه النظرة المتمركزة حول أوروبا، والمنطلقة منها، هي العمود الفقري لمعظم كتابات المؤرخين الغربيين، بل يتردد صداها أيضاً في جامعات ومدارس الشرق العربي- الإسلامي بتأثير من المدرسة الغربية.

ولكي يفك هذا الالتباس، كان على غارث فودن أن يقوّض الأسس التي يبني عليها غيره من الباحثين نظرتهم لدور الإسلام في مسيرة التاريخ البشري. تلك الأسس التي تتمثل جغرافياً وفكرياً في ما يطلق عليه توصيف "التمحور حول أوروبا"، وتاريخياً في فكرة العصور الوسطى المتخلفة الواقعة بين ماض أوروبي عريق وحاضر نهضت فيه أوروبا وحدها تاركة العالم كله وراءها.

بين هذا وذاك يقع الإسلام، ديناً وثقافة وحضارة؛ غير أن الإسلام يطل في الوقت الحاضر، إما ممزقاً بفعل عوامل داخلية أو مستعمراً من قبل قوى خارجية. بسبب ذلك، يلاحظ فودن أن أي باحث لا يستطيع أن يخرج من هذه الأطر لن يستطيع تقديم إجابات شافية أو أن يقف على أرضية صلبة للبحث والتقصي حول دور الإسلام في مسيرة التاريخ. ولن يتسنى له ذلك إلا إذا قوّض كل تلك الأسس، وهدم القواعد الفكرية التي بنيت عليها. وهو منذ البداية يعلن: "أن تسيّد الغرب في طريقه إلى أن يصبح تاريخاً ماضياً ينشغل المؤرخون بتفسير أسباب زواله بنفس الدرجة التي يتجادلون بها في ما بينهم عن أسباب نشأته".

هذا ما حاول إنجازه غارث فودن بأسلوب بانورامي تشريحي على مدار سبعة فصول. ومن خلال موضوعات مختارة بعناية تنم عن اطلاع واسع سواء على التراث اليوناني والروماني، متمثلاً في فلسفة الإغريق وفي قانون الرومان، إلى جانب القيم الثقافية لليهودية والمسيحية.

كما يضيء فودن جوانب من التاريخ الإسلامي بمدارسه الفقهية، ويقرأ الفلسفة اليونانية في ثيابها العربية لدى الكندي والفارابي وابن سينا، إضافة إلى إطلالات على الفلسفات الشرقية، وغيرها من الموضوعات التي يوظفها الكاتب ليخدم غرضه النهائي في عرض وجهة نظر مقنعة.

لم يجعل غارث فودن من عمله هذا مجرد كتاب يعرض فيه وجهة نظر مؤرخ قد يتفق معها البعض كما قد يختلف معه بعض آخر؛ بل يجعل منه برنامجاً بحثياً يسعى لعرض حلول فكرية لالتباسات تخترق الوقت الحاضر من خلال البحث الأكاديمي الجاد والمستمر في أصولها الماضية.

نجاح فودن، في هذا الكتاب، يتمثل أولاً في طرحه لفكرة الخروج من المركزية الأوروبية في تناول التاريخ العام للبشرية وتوسعة نطاق البحث شرقاً ليشمل العالم الإسلامي. وهو بهذا، يطوّر الفكرة التي تناولها من قبل في كتابه "من الإمبراطورية إلى الكومنولث" (1993)، التي رأى فيها العالم الإسلامي ككل متكامل تحول فقط من إمبراطورية إلى رابطة دول مستقلة (كومنولث). ثم يتمثل ثانياً في جرأته على توسيع نطاق البحث الزمني ليضم كل "الألف سنة الأولى بعد الميلاد"، والتي يعتبرها منبع التيارات الفكرية والفلسفية والدينية والقانونية في العصر الحديث سواء في العالم الإسلامي أو في الغرب.

لقد اقتضى هذا التوسع إتقان ثلاث لغات لا يتيسر لكثيرين في العالم اتقانها مجتمعة، هي اليونانية واللاتينية والعربية. انطلاقاً من هذا العائق، يدعو فودن في خاتمة الكتاب إلى تكوين مجموعات بحثية، على غرار المجموعات البحثية في العلوم الطبيعية، حتى يصبح ممكناً تناول موضوعات حضارية بشكل أكثر شمولاً مما هي عليه اليوم.

دلالات
المساهمون