عِصِيٌّ كثيرة وجزر قليل

17 يونيو 2015
+ الخط -
لو سألت فلسطينيين عايشوا الحقبة التي سبقت اندلاع الانتفاضة الأولى (1987-1994) عن الواقع في تلك الفترة، ستجد تبايناً واضحاً في الآراء. سيحدثك بعضهم عن إجراءات قمع وإذلال إسرائيلية بشعة بحق السكان، آنذاك. فيما سيحدثك آخرون عن رفاه اقتصادي غير مسبوق أتاحته سلطات الاحتلال، بفتح المجال للفلسطينيين للعمل داخل إسرائيل، والاستفادة من معدلات الأجور العالية. 
لا تستغرب الإجابتين، فهما تعبران عن سياسة "العصا والجزرة" التي تتبعها إسرائيل حيال الفلسطينيين، منذ فترة طويلة. ولعل استخدام هذه السياسة، بحد ذاته، أحد أشكال الإرهاب والإجرام الإٍسرائيلي، متعدد الوجوه، فهذا المصطلح مُسيء لمن يُستخدم ضده، ولا يعبر عن أي احترام لآدمية الإنسان، ولا يتناغم مع التطور الحاصل في مفاهيم "حقوق الإنسان" العالمية، حيث يتعامل مع البشر على أساس كونهم "ماشية"، بالإمكان ترويضها باستخدام مبدأ الترغيب والترهيب.
قطاع غزة مثال حي على هذه السياسة القذرة، فإسرائيل تحاصره منذ 8 سنوات، وتسببت بمآسٍ إنسانية مروعة، وأفقدت أجيالاً كاملة الفرصة في الحياة، ولم تكتفِ بذلك، بل شنت عليه ثلاث حروب مدمرة، أهلكت الحرث والنسل. لكنها اليوم تقدم مبادرات مثيرة للانتباه، فهي تفتح معبر بيت حانون على مدار الساعة تقريبا، وتسمح لقرابة 800 فلسطيني بالمرور يومياً، كما بدأت، أخيراً، في منح التجار بطاقات خاصة، تسمح لهم بالتنقل بحرية. وبات في مقدور مرضى وطلاب كثيرين السفر عبر المعبر، بديلاً عن معبر رفح المغلق من السلطات المصرية.
وقدمت إسرائيل تسهيلات كبيرة على معبر كرم أبو سالم، المنفذ التجاري الوحيد لغزة على العالم، وتسمح تقريباً بدخول غالبية البضائع، عدا مواد البناء، وبعض السلع التي تزعم أنها تستخدم في تصنيع السلاح. وتُسرب الدوائر الأمنية الإسرائيلية للإعلام أنباءً عن قرب التوصل إلى اتفاق تهدئة مع حركة حماس، يسمح بفك الحصار تماماً، وإنشاء ميناء خاص بالقطاع، على الرغم من عدم وجود أي تأكيد فلسطيني في هذا السياق.
وكي يُطبق مبدأ "العصا والجزرة" بحذافيره، لا يستطيع أي غزّي أن يتمتع بالتسهيلات السابقة، إلا إذا قدم شهادة "حسن سير وسلوك"، وفق المفهوم الإسرائيلي، المتمثل بالابتعاد كل البُعد عن "المقاومة الفلسطينية".
فإذا كُنت مريضا، أو تاجرا، أو طالبا، أو صاحب حاجة مُلحة للسفر، وسبق أن عملت في صفوف فصيل فلسطيني، فلا تحلم مطلقاً أن تُمنح تصريحاً بالخروج من غزة. وهذه رسالة إسرائيلية لكل فلسطيني: إذا أردت أن تعيش إنساناً، عليك الابتعاد عن "المقاومة".
ولا يعني هذا أن من يُسمح لهم بالسفر غير وطنيين، بل هم أشخاص عاديون، لم تتمكن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من اكتشاف أي علاقة لهم بالأنشطة النضالية.
وفي مقابل الجزرات القليلات، اللواتي تمنحهن إسرائيل لغزة، تُشْرع عِصِيّاً كثيرة، أهمها منع إعمار القطاع، على الرغم من مرور عام على انتهاء الحرب، حيث ما يزال عشرات الآلاف من السكان مشردين. وتتعمد إسرائيل شل اقتصاد غزة، بمنع السلع الأساسية، مثل مواد البناء، من الدخول، ما يتسبب بتفشي الفقر، وارتفاع نسبة البطالة إلى أعلى مستوى في العالم، كما يؤكد البنك الدولي. ولا تتوانى، بين فينة وأخرى، عن شن الغارات الليلية، بذريعة الرد على صواريخ أطلقت من غزة.
الحق يقال إن إسرائيل بارعة جدا في استخدام هذا الأسلوب، وربما هذا يرجع إلى أنها لا تتعامل مع العرب بعشوائية وارتجالية، كما يتعاملون هم معها، بل تعتمد على مراكز أبحاث، وأجهزة أمنية واستخباراتية محترفة. لكن التاريخ يؤكد أن سياسة "العصا والجزرة" لم تفلح سابقا مع الفلسطينيين، فما الذي يدفع إسرائيل للاستمرار في ممارستها؟
قد يرتبط الأمر بخشية إسرائيل من "الانفجار"، أو تثبيت الواقع الحالي، بحيث يستمر الانقسام بين غزة والضفة، ولا يتمكّن الفلسطينيون من تحقيق أي إنجازات حقيقية على الأرض.
EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة