المصالحتان الفلسطينيتان... الصغرى والكبرى

15 فبراير 2016
+ الخط -
لا يحتاج الفلسطينيون ليتخلصوا من الانقسام إلى مصالحة واحدة، بل اثنتين، صغرى وكبرى. الأولى، إنهاء الانقسام الجغرافي، وإعادة اللحمة بين أراضي السلطة الفلسطينية (الضفة الغربية، وقطاع غزة)، والتوافق على تشكيل حكومة واحدة، تبسط سيطرتها الفعلية على الأرض. الكبرى، وهي الأهم، أن يصل الفصيلان الكبيران، حركتا فتح وحماس، ومعهما بقية الفصائل، إلى القبول الحقيقي بمبدأ تداول السلطة، والاحتكام لصندوق الانتخابات، أو على الأقل التوافق على اعتماد لغة الحوار لحل الإشكاليات، بعيدا عن "العنف"، والإقصاء، والتخوين والتهميش.
ولأن تحقيق "المصالحة الصغرى"، على الرغم من أهميتها، إنجاز هش، وقابل للانهيار في أية لحظة، تبقى المصالحة الثانية الأهم. بدليل أن "فتح" و"حماس" اتفقتا نظرياً على إعادة اللحمة الجغرافية، وشكلتا حكومة التوافق في إبريل/نيسان 2014، من دون أن يترجم ذلك على أرض الواقع، وظل الاتفاق حبراً على ورق.
لم يكترث الفلسطينيون كثيراً بأخبار مفاوضات الحركتين في الدوحة، الأسبوع الماضي، وانتهت إلى إعلان التوصل إلى "تصور عملي لتطبيق اتفاق المصالحة الفلسطينية"، من دون الإفصاح عن تفاصيله. فالتجارب السابقة جعلتهم متيقنين بشبه استحالة وصول الطرفين إلى اتفاق حقيقي وجاد نحو المصالحة، ما لم تحدث "معجزة".
ليس تحقيق أي شكل من أنواع المصالحة سهلاً، ويحتاج قوة دفع كبيرة، أو أحداثا عظيمة، أو مستجدات تعجّل من إنجازه، وتضغط على الحركتين لإتمامه، وهي "العوامل الإيجابية"، وبعضها متوفر وتضغط على كلتا الحركتين. لكن العوامل السلبية التي تعيقها أقوى، في مقدمتها التدخلات الخارجية، إسرائيلية أو دولية أو عربية. فليس سراً أن الوصول إلى المصالحة يحتاج موافقات دولية، وإقليمية، وعربية؛ وليس سراً أن جهاتٍ تفرض "فيتو" على فكرة المصالحة، فإسرائيل، مثلاً، تهدد السلطة الفلسطينية، وتحذرها من مغبة الاتفاق مع "حماس"، على اعتبار أنها كيان إرهابي، وقد تقدم على وقف تحويل أموال الضرائب التي تجبيها، وفق اتفاق باريس الاقتصادي، لصالح الخزينة الفلسطينية. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، رفضه المصالحة علنا، عقب اتفاق الشاطئ (إبريل/نيسان 2014)، وقال إن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، اختار "حماس وليس السلام"، وألغى جلسة تفاوض مع الفلسطينيين كانت مقرّرة. وتجاهر الولايات المتحدة بالموقف نفسه، فقد حذرت من أن "اتفاق الشاطئ" قد "يعقّد" الجهود الجارية لتحريك عملية السلام، معربة عن "خيبة أملها وقلقها في الوقت نفسه".
أما إمكانية التوصل إلى "المصالحة الكبرى"، والتي تتمثل بقبول كل الأطراف مبدأ "تداول السلطة سلميا"، والاحتكام للحوار أو صندوق الاقتراع، فقد يبدو طرحاً خيالياً في هذا التوقيت. لكن الوصول إلى هذا الأمر ليس مستحيلا، وقد نصل إليه في غضون عقد، بالنظر إلى حركة تطور الفكر السياسي الفلسطيني، في الأعوام الماضية.
فلو رجعنا عقدين أو ثلاثة إلى الوراء، نجد أن الواقع الحالي، (مع مساوئه)، أفضل من الواقع في تلك الفترة، حيث لم تكن الفصائل تعترف ببعضها ابتداءً، وسادت بينها أجواء من "التخوين"، و"رفض الآخر". والانقسام الفلسطيني لم يبدأ في أعقاب سيطرة "حماس" على قطاع غزة، صيف 2007، بل هو عميق، وربما يعود إلى الثمانينيات، حينما بدأت المناوشات الميدانية، والصراعات النقابية، بين من كانوا يعرفون بنشطاء جماعة الإخوان المسلمين وحركة فتح.
وظل منحنى هذا الانقسام في تصاعد مستمر، خصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة الأولى (1987-1994)، وزاد بشكل كبير عقب توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، قبل أن يبلغ ذروته بالاشتباكات المسلحة التي انتهت بسيطرة حركة حماس على غزة، وتحوّل أراضي السلطة الفلسطينية إلى منطقتين منفصلتين. وعلى الرغم من صعوبة الواقع الحالي، واشتداد الانقسام، وطغيان الخطاب السياسي والإعلامي "التوتيري"، لكن الفصائل تخطت مرحلة الرفض المُطلق للآخر، وتقبل بفكرة الحوار، والجلوس على طاولة التفاوض.
وعموما، ليس الشعب الفلسطيني بدعاً من الشعوب، فلا يخلو مجتمع من وجود حزبين أو أكثر، تتصارع على السلطة، لكن استمرار هذا الصراع، في منطقةٍ محتلة، وتواجه تحدياتٍ كثيرة، يعد بلا شك "مأساة" حقيقية، تضعف جبهة الفلسطينيين، وتفقدهم عوامل كثيرة من القوة.

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة