تُعاني عُمان عزلتين؛ جغرافية ومعرفية. جغرافيّاً، إذ إنها تقع في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، تحيطها من جهتي الشمال والشرق والجنوب ثلاثة بحار هي "بحر العرب، وخليج عُمان، والخليج الفارسي"، ومن جهة الجنوب الشرقي صحراء الربع الخالي، ومن جهة الشمال الغربي سلسلة جبال الحجر الغربي، التي تمتد من مسندم في الشمال إلى حدود العاصمة مسقط. ومعرفيّاً، حيث إن قلة هي فقط من تعرف تاريخ عُمان السياسي والثقافي، جُلّها من الباحثين والمختصين. وإذا كانت عزلة الجغرافيا قد كُسرت بفضل ثورة النقل والمواصلات، وشروط العولمة وانتقال العمالة ورأس المال والاستثمار، فإن عزلة المعرفة لا تزال قائمة. والعمانيون مسؤولون عن هذه العزلة، بالقدر ذاته الذي يتحمل فيه غير العمانيين المسؤولية فيها.
يلقي هذا الكتاب "الإمامة والصراع على السلطة في عُمان أواخر عهد اليعاربة" للباحث العُماني، سيف بن عدي المسكري، الضوء على التاريخ السياسي والثقافي العُماني، ويشكل مدخلا ضروريا لفهم الشخصية العمُانية المعاصرة، وقراءة "موقفها" من العالم و"رؤيتها" له، وذلك على أرضية الفكر الإباضي المؤسس للحكم في هذا البلد.
تكمن أهمية هذا الكتاب ليس فقط في الفترة الزمنية، التي يغطيها، والتي تُعد واحدة من أخطر الفترات في تاريخ عُمان، بل أيضا، في تحليله وتتبعه العميقين لفلسفة الحكم التي عرفتها عُمان، وآليات انتخاب وعزل الحاكم، وفق مبادئ ومنطلقات المذهب الإباضي، منذ قيام ما يعرف بالإمامة الأولى"الإمام الجلندي بن مسعود" عام 751م، وحتى الإمامة الأخيرة "الإمام غالب بن علي الهنائي" عام 1954م. فعُمان التي يحكمها اليوم نظام سلطاني وراثي عائلي مستمر داخل أسرة واحدة هي أسرة "آل بوسعيد" منذ عام 1749م، عرفت، قبل هذه الأسرة، وخلالها، تحولات وانتقالات سياسية كثيرة وكبيرة، كما عرفت صعودا سياسيا وتمددا جغرافيا بلغ سواحل فارس ومكران وشرق أفريقيا، وانكماشا وانغلاقا وعزلة بلغت مداها في فترة حكم السلطان السابق، سعيد بن تيمور (1932-1970م ).
تقوم نظرية الحكم عند الإباضية على أن "الإمامة فرض من فروض الله، وواجب اتباعه"، وأن ولاية الإمام/ الحاكم قائمة على مبدأ الاختيار أو الانتخاب وهو "أمر منوط بالعلماء" أو من يُعرفون بـ "أهل الحل والعقد" أي الجماعة التي بمقدورها حل الحكم أي "إسقاطه"، وعقده أي "إقامته". بهذا المعنى، فإن ما يُميز الإباضية عن سواهم من الفرق والمذاهب في الإسلام، هو أن الحكم للناس ممثلين في العلماء وأهل الرأي والمشورة، ينتخبون عبرهم من يرونه مناسبا للحكم، ويعزلونه في حال أخل بـ "شرع الله" وحقوق "الرعية". لكن هؤلاء "الناس" أصحاب السلطة أو مصدر السلطة كما يطلق عليهم في الفكر السياسي الحديث، بقوا صورة غائمة، مائية ومطاطة، يشكلها علماء وفقهاء المذهب من جهة، وشيوخ وزعماء القبائل من جهة أخرى، وفق أهوائهم وحسابات وتوازنات السياسة والحكم.
يتعارض مبدأ "الانتخاب" لدى الإباضية مع مبدأ الاستخلاف أو ولاية العهد، لذا فهم لا يجيزون الأخير حتى لا ينتقل الحكم من "الناس" إلى " الأسرة أو العائلة". غير أن قواعد ومبادئ الحكم الإباضي" حكم الانتخاب والشورى" تعرضت، عبر التاريخ العماني، لضربات عديدة، لا سيما في عهد اليعاربة، قبل أن تنتقل من "الشورى والانتخاب" وتستقر بصورة نهائية في "التوريث داخل العائلة الواحدة".
يستعرض الباحث خمس محطات كبرى في مسيرة دولة "الإمامة في عُمان". بدأت بانتخاب أول إمام إباضي "الإمام الجلندي بن مسعود" الذي استمر حكمه بين الأعوام (749-752م)، مرورا بحادثة مقتله على يد العباسيين، ودخول "دولة الإمامة" فيما يعرف في المذهب الإباضي بحالة "الكتمان". حتى قيام الإمامة الثانية (793-893م) وهي المحطة التي يصفها الكاتب بالعصر الذهبي للإمامة في عُمان إذ "شهدت تنصيب عدد من الأئمة المتتابعين وفي فترة زمنية طويلة نسبيّاً، تمكن فيها أتباع هذا الفكر من إقامة دولة ذات قوة ووحدة ملموسة، وفيها تم تطبيق أفكار المذهب (الإباضي) وتنظيم المؤسسات وفق فلسفته، كما تمتع فيها أهل عُمان بالاستقرار والرخاء الاقتصادي". غير أن بقاء إمام واحد في سدة الحكم لخمسة وثلاثين عاما وهو الإمام الصلت بن مالك الخروصي (851-886م)، كان سببا لبداية النهاية للعصر الذهبي، حيث قامت ضده حركة معارضة بقيادة العلامة، موسى بن موسى، تطالب بعزله لأنه بلغ من العمر مرحلة لا يستطيع معها القيام بإدارة الدولة.
وبالفعل أجبرت المعارضة الإمام الصلت بن مالك على اعتزال الحكم وتنصيب إمام جديد مكانه، هو الإمام راشد بن النظر. لكن الحركة الُمعارِضة التي أجبرت الإمام الصلت بن مالك على اعتزال الحكم، كانت سببا في نشوء خلاف بين دعاة طاعة الحاكم مهما كان، وبين دعاة عزله حال عدم قدرته القيام بواجبات الحكم. ذلك الخلاف سيتطور إلى استقطابات وتكتلات قبلية ستفضي إلى اقتتال وحروب بين ما يعرف بالقبائل اليمانية وما يعرف بالقبائل النزارية.
وهنا يضع الباحث، بحصافة ودقة، يده على "الجرثومة" التي ستنخر في الجسد العماني سنوات طويلة وستنهك هذا الجسد، وستنهي مبدأ الحكم الذي قام على الانتخاب والشورى، وتنقله إلى الحكم العائلي العضود.
ويمر الكاتب سريعا على الإمامة الثالثة (759-953م) وفي هذه الفترة شهدت عُمان صراعا بين الأئمة الذين بلغ عددهم اثني عشر إماما وولاة بني العباس، وهو الصراع الذي عمّق الشروخ في الوحدة الوطنية ودفع بالبلاد إلى انقسامات عميقة. ثم جاءت الإمامة الرابعة (1016-1183م) وفيها استفحل الخلاف بين العمانيين (بين من عُرف يومها بأتباع المدرسة الرستاقية وبين أتباع المدرسة النزوانية - وهما مدرستان فقهيتان تنتميان إلى المذهب الإباضي ولكل منهما تفسيره الخاص لقضية عزل الإمام) والذي أفضى إلى وجود إمامين في نفس الوقت، وإلى مزيد من الانقسامات القبائلية والمناطقية، وهي الانقسامات التي ستستمر وتتواصل طويلا وحتى ما قبل حكم السلطان قابوس بن سعيد عام 1970 بقليل. ثم جاءت الإمامة الخامسة (1406-1557م) والتي استمرت نحو قرن من الزمان لم تكن فيه الإمامة مستقرة. وخلال هذه الفترة ظهرت سلطنة بني نبهان الأولى، إلا أن الكاتب أبقاها خارج سياق هذه الدراسة.
يخلُص الكاتب، من استعراضه هذه المحطات الخمس الكبرى لتاريخ دولة الإمامة في عُمان، إلى أن جوهر وفكر الإمامة عند الإباضية قائم على أساس الشورى، سواء في اختيار الحاكم، أو التعاطي مع شأن الدولة واتخاذ القرارات. في الوقت ذاته كان العرف القبلي والعصبية القبيلة حاضرين بقوة في صراعات السياسة وتجاذبات الحكم، وكان ثمة تأثير متبادل بين تقاليد القبيلة وفكر المذهب. ومن هنا بدا تواصل الحكم - وإن عبر الشورى والانتخاب - لدى قبائل بعينها ولفترات طويلة، مثل قبيلة اليحمد التي استأثرت بالحكم قبل مجيء اليعاربة، ثم قبيلة اليعربي، ثم النبهاني، والخروصي، والخليلي، والبوسعيدي، ناهيك عن مركزي هذه القبائل المتمثلين في القبيلتين أو الحزبين المركزيين " الهناوي والغافري". ولعله كان على الباحث المضي أبعد في تحليل العلاقة بين " فقه القبيلة" و"فقه المذهب" عند العمانيين، وهذا "التآخي" أو "التواطؤ" بين " القبيلة والمذهب" في العملية السياسية.
إن واحدة من عناصر القوة، ولكن أيضا من عناصر الضعف، في مسيرة دولة الإمامة في عُمان، والتي يُمكن استخلاصها من هذا الكتاب، هي دور علماء المذهب في العملية السياسية، ففي الوقت الذي مثّلوا فيه "صوت الناس" المُغيَّب في عملية اختيار الحاكم وعملية عزله، فإن لعبهم دور الوصي على الحكم باعتبارهم "أهل الحل والعقد" وأصحاب "الرأي والمشورة" و"ورثة الأنبياء" وتداخل الشخصي والقبلي مع الفقهي والديني في كثير من قرارتهم وتدخلاتهم في أمور الحكم، كان سببا رئيسيا في ضعف الدولة وانهيارها في بعض الحالات. كما كان الحال مع المدرستين "الرستاقية" و"النزوانية" اللتين عملتا على إضعاف الوحدة الوطنية وتماسك الحياة الداخلية.
تعد مرحلة حكم اليعاربة لعُمان، والتي ناقش هذا الكتاب فصلاً من فصولها الكثيرة، واحدة من أهم الفترات في التاريخ العماني، ففيها برزت عُمان كقوة إقليمية عظيمة تمكنت من طرد الاحتلال البرتغالي من عُمان وسواحل فارس إلى شرق أفريقيا، ثم نشوء ما عرف بعدها بالإمبراطورية العمانية مترامية الأطراف. غير أن الصراع على السلطة، والاستئثار بالحكم لدى بعض حكام الدولة اليعربية واستقواء بعضهم بالأجنبي، "الفارسي"، ضد خصومهم المحليين، أدخل عُمان في سلسلة من الحروب والنزاعات والشقاقات والاستعمار الفارسي، مما أفضى إلى نهاية حكم الدولة اليعربية الذي دام مائة وعشرين عاما وقيام دولة جديدة هي دولة آل بوسعيد، التي سيتواصل حكمها منذ مبايعة المؤسس، أحمد بن سعيد، إماماً عام 1749 وحتى اليوم.
(كاتب وصحافي عُماني)
يلقي هذا الكتاب "الإمامة والصراع على السلطة في عُمان أواخر عهد اليعاربة" للباحث العُماني، سيف بن عدي المسكري، الضوء على التاريخ السياسي والثقافي العُماني، ويشكل مدخلا ضروريا لفهم الشخصية العمُانية المعاصرة، وقراءة "موقفها" من العالم و"رؤيتها" له، وذلك على أرضية الفكر الإباضي المؤسس للحكم في هذا البلد.
تكمن أهمية هذا الكتاب ليس فقط في الفترة الزمنية، التي يغطيها، والتي تُعد واحدة من أخطر الفترات في تاريخ عُمان، بل أيضا، في تحليله وتتبعه العميقين لفلسفة الحكم التي عرفتها عُمان، وآليات انتخاب وعزل الحاكم، وفق مبادئ ومنطلقات المذهب الإباضي، منذ قيام ما يعرف بالإمامة الأولى"الإمام الجلندي بن مسعود" عام 751م، وحتى الإمامة الأخيرة "الإمام غالب بن علي الهنائي" عام 1954م. فعُمان التي يحكمها اليوم نظام سلطاني وراثي عائلي مستمر داخل أسرة واحدة هي أسرة "آل بوسعيد" منذ عام 1749م، عرفت، قبل هذه الأسرة، وخلالها، تحولات وانتقالات سياسية كثيرة وكبيرة، كما عرفت صعودا سياسيا وتمددا جغرافيا بلغ سواحل فارس ومكران وشرق أفريقيا، وانكماشا وانغلاقا وعزلة بلغت مداها في فترة حكم السلطان السابق، سعيد بن تيمور (1932-1970م ).
تقوم نظرية الحكم عند الإباضية على أن "الإمامة فرض من فروض الله، وواجب اتباعه"، وأن ولاية الإمام/ الحاكم قائمة على مبدأ الاختيار أو الانتخاب وهو "أمر منوط بالعلماء" أو من يُعرفون بـ "أهل الحل والعقد" أي الجماعة التي بمقدورها حل الحكم أي "إسقاطه"، وعقده أي "إقامته". بهذا المعنى، فإن ما يُميز الإباضية عن سواهم من الفرق والمذاهب في الإسلام، هو أن الحكم للناس ممثلين في العلماء وأهل الرأي والمشورة، ينتخبون عبرهم من يرونه مناسبا للحكم، ويعزلونه في حال أخل بـ "شرع الله" وحقوق "الرعية". لكن هؤلاء "الناس" أصحاب السلطة أو مصدر السلطة كما يطلق عليهم في الفكر السياسي الحديث، بقوا صورة غائمة، مائية ومطاطة، يشكلها علماء وفقهاء المذهب من جهة، وشيوخ وزعماء القبائل من جهة أخرى، وفق أهوائهم وحسابات وتوازنات السياسة والحكم.
يتعارض مبدأ "الانتخاب" لدى الإباضية مع مبدأ الاستخلاف أو ولاية العهد، لذا فهم لا يجيزون الأخير حتى لا ينتقل الحكم من "الناس" إلى " الأسرة أو العائلة". غير أن قواعد ومبادئ الحكم الإباضي" حكم الانتخاب والشورى" تعرضت، عبر التاريخ العماني، لضربات عديدة، لا سيما في عهد اليعاربة، قبل أن تنتقل من "الشورى والانتخاب" وتستقر بصورة نهائية في "التوريث داخل العائلة الواحدة".
يستعرض الباحث خمس محطات كبرى في مسيرة دولة "الإمامة في عُمان". بدأت بانتخاب أول إمام إباضي "الإمام الجلندي بن مسعود" الذي استمر حكمه بين الأعوام (749-752م)، مرورا بحادثة مقتله على يد العباسيين، ودخول "دولة الإمامة" فيما يعرف في المذهب الإباضي بحالة "الكتمان". حتى قيام الإمامة الثانية (793-893م) وهي المحطة التي يصفها الكاتب بالعصر الذهبي للإمامة في عُمان إذ "شهدت تنصيب عدد من الأئمة المتتابعين وفي فترة زمنية طويلة نسبيّاً، تمكن فيها أتباع هذا الفكر من إقامة دولة ذات قوة ووحدة ملموسة، وفيها تم تطبيق أفكار المذهب (الإباضي) وتنظيم المؤسسات وفق فلسفته، كما تمتع فيها أهل عُمان بالاستقرار والرخاء الاقتصادي". غير أن بقاء إمام واحد في سدة الحكم لخمسة وثلاثين عاما وهو الإمام الصلت بن مالك الخروصي (851-886م)، كان سببا لبداية النهاية للعصر الذهبي، حيث قامت ضده حركة معارضة بقيادة العلامة، موسى بن موسى، تطالب بعزله لأنه بلغ من العمر مرحلة لا يستطيع معها القيام بإدارة الدولة.
وبالفعل أجبرت المعارضة الإمام الصلت بن مالك على اعتزال الحكم وتنصيب إمام جديد مكانه، هو الإمام راشد بن النظر. لكن الحركة الُمعارِضة التي أجبرت الإمام الصلت بن مالك على اعتزال الحكم، كانت سببا في نشوء خلاف بين دعاة طاعة الحاكم مهما كان، وبين دعاة عزله حال عدم قدرته القيام بواجبات الحكم. ذلك الخلاف سيتطور إلى استقطابات وتكتلات قبلية ستفضي إلى اقتتال وحروب بين ما يعرف بالقبائل اليمانية وما يعرف بالقبائل النزارية.
وهنا يضع الباحث، بحصافة ودقة، يده على "الجرثومة" التي ستنخر في الجسد العماني سنوات طويلة وستنهك هذا الجسد، وستنهي مبدأ الحكم الذي قام على الانتخاب والشورى، وتنقله إلى الحكم العائلي العضود.
ويمر الكاتب سريعا على الإمامة الثالثة (759-953م) وفي هذه الفترة شهدت عُمان صراعا بين الأئمة الذين بلغ عددهم اثني عشر إماما وولاة بني العباس، وهو الصراع الذي عمّق الشروخ في الوحدة الوطنية ودفع بالبلاد إلى انقسامات عميقة. ثم جاءت الإمامة الرابعة (1016-1183م) وفيها استفحل الخلاف بين العمانيين (بين من عُرف يومها بأتباع المدرسة الرستاقية وبين أتباع المدرسة النزوانية - وهما مدرستان فقهيتان تنتميان إلى المذهب الإباضي ولكل منهما تفسيره الخاص لقضية عزل الإمام) والذي أفضى إلى وجود إمامين في نفس الوقت، وإلى مزيد من الانقسامات القبائلية والمناطقية، وهي الانقسامات التي ستستمر وتتواصل طويلا وحتى ما قبل حكم السلطان قابوس بن سعيد عام 1970 بقليل. ثم جاءت الإمامة الخامسة (1406-1557م) والتي استمرت نحو قرن من الزمان لم تكن فيه الإمامة مستقرة. وخلال هذه الفترة ظهرت سلطنة بني نبهان الأولى، إلا أن الكاتب أبقاها خارج سياق هذه الدراسة.
يخلُص الكاتب، من استعراضه هذه المحطات الخمس الكبرى لتاريخ دولة الإمامة في عُمان، إلى أن جوهر وفكر الإمامة عند الإباضية قائم على أساس الشورى، سواء في اختيار الحاكم، أو التعاطي مع شأن الدولة واتخاذ القرارات. في الوقت ذاته كان العرف القبلي والعصبية القبيلة حاضرين بقوة في صراعات السياسة وتجاذبات الحكم، وكان ثمة تأثير متبادل بين تقاليد القبيلة وفكر المذهب. ومن هنا بدا تواصل الحكم - وإن عبر الشورى والانتخاب - لدى قبائل بعينها ولفترات طويلة، مثل قبيلة اليحمد التي استأثرت بالحكم قبل مجيء اليعاربة، ثم قبيلة اليعربي، ثم النبهاني، والخروصي، والخليلي، والبوسعيدي، ناهيك عن مركزي هذه القبائل المتمثلين في القبيلتين أو الحزبين المركزيين " الهناوي والغافري". ولعله كان على الباحث المضي أبعد في تحليل العلاقة بين " فقه القبيلة" و"فقه المذهب" عند العمانيين، وهذا "التآخي" أو "التواطؤ" بين " القبيلة والمذهب" في العملية السياسية.
إن واحدة من عناصر القوة، ولكن أيضا من عناصر الضعف، في مسيرة دولة الإمامة في عُمان، والتي يُمكن استخلاصها من هذا الكتاب، هي دور علماء المذهب في العملية السياسية، ففي الوقت الذي مثّلوا فيه "صوت الناس" المُغيَّب في عملية اختيار الحاكم وعملية عزله، فإن لعبهم دور الوصي على الحكم باعتبارهم "أهل الحل والعقد" وأصحاب "الرأي والمشورة" و"ورثة الأنبياء" وتداخل الشخصي والقبلي مع الفقهي والديني في كثير من قرارتهم وتدخلاتهم في أمور الحكم، كان سببا رئيسيا في ضعف الدولة وانهيارها في بعض الحالات. كما كان الحال مع المدرستين "الرستاقية" و"النزوانية" اللتين عملتا على إضعاف الوحدة الوطنية وتماسك الحياة الداخلية.
تعد مرحلة حكم اليعاربة لعُمان، والتي ناقش هذا الكتاب فصلاً من فصولها الكثيرة، واحدة من أهم الفترات في التاريخ العماني، ففيها برزت عُمان كقوة إقليمية عظيمة تمكنت من طرد الاحتلال البرتغالي من عُمان وسواحل فارس إلى شرق أفريقيا، ثم نشوء ما عرف بعدها بالإمبراطورية العمانية مترامية الأطراف. غير أن الصراع على السلطة، والاستئثار بالحكم لدى بعض حكام الدولة اليعربية واستقواء بعضهم بالأجنبي، "الفارسي"، ضد خصومهم المحليين، أدخل عُمان في سلسلة من الحروب والنزاعات والشقاقات والاستعمار الفارسي، مما أفضى إلى نهاية حكم الدولة اليعربية الذي دام مائة وعشرين عاما وقيام دولة جديدة هي دولة آل بوسعيد، التي سيتواصل حكمها منذ مبايعة المؤسس، أحمد بن سعيد، إماماً عام 1749 وحتى اليوم.
(كاتب وصحافي عُماني)