عولمة مقلوبة

15 فبراير 2016
لوحة للفنانة الأميركية كارول سيراك (Getty)
+ الخط -
حين بدأ داعش بأكل أجزاء من المناطق السورية والعراقية قضمةً فقضمة، قفز تعبير "مجازي" عن ذلك القضم "المباغت" : "داعش يمحو حدود سايكس بيكو". وإذ تذكّر المرء ما حفلت به أدبيات التاريخ العربية عن اتفاق الإنجليزي سايكس والفرنسي بيكو، لما صعب عليه إدراك النبرة "الإيجابية الموجِهة" في التعبير المجازي إيّاه. لكأنّ داعش يعود بنا مائة عام إلى الوراء لـ "تصحّح" خطأ "الفرنجة" أو الطرفين اللذين انتدبا نفسيهما على منطقة شرق المتوسط، وفقًا للتعبير الشهير في النصف الأوّل من القرن العشرين: الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي.

أصحيحٌ أن حالنا قبل حدود "سايكس بيكو"، هو الحال المنشود ذو الأوصاف الرنانة : دولة عربية موحدة؟ لو كان حالنا كذلك، لصار ممكنًا القول إن داعش ترسم معالم "حركة تصحيحية" أخرى، وكأن هذا ما كان ينقصنا.

اقرأ أيضًا: مقبول ومفهوم

القصد، إن المقارنة بين الحدود التي رُسمت منذ نيف ومائة عام، وتلك التي في طور التشكّل اليوم، على ما يبدو، في المنطقة ذاتها، تفتح الباب أمام مجموعة من التساؤلات، من بينها : هل نظر السكان في هذه المنطقة إلى الحدود باعتبارها تقسيمًا؟ وكيف انعكس ذلك على حيواتهم؟ لئن كان صحيحًا القول إن سكان سورية الواقعين "شرق النهر" (وهذا تعبير جادت به قريحة أحدهم مؤخرًا، للدلالة على المحافظات الثلاث: دير الزور والرقة والحسكة)، أدنى إلى سكان غرب العراق، حيث محافظة الأنبار، فإننا نكاد فعلًا لا نعثر على مدوّنات أدبية أو غير أدبية كتبها العرب تعكس به أثر الفصل الحاد بين السكان في تلك المنطقة. صحيحٌ أننا نقع على قصائد تقاوم المحتلين البريطاني والفرنسي، مثلًا، إلا أننا لا نكاد نعثر على شيء يقول شيئًا عن "التقسيم" الناجم عن "وضع" حدود جديدة من قبل المحتل. فلو أخذنا الشاعر العراقي معروف الرصافي مثلًا، باعتباره استلم مناصب رفيعة، فقد انتخب لأكثر من مرة في "مجلس المبعوثان"، لما وجدنا في مدونته الشعرية شيئًا تقريبًا عن أثر التقسيم الذي فرضته حدود سايكس بيكو.

ثمة على خجل في واحدة من دوريات ذاك الزمان - وكانت أسبوعية منوعة، سياسية وثقافية - وتحديدًا في الثلاثينيات من القرن المنصرم، بيان لمثقفين لبنانيين وسوريين يستنكرون التقسيم ويشجبونه. لكننا في المحصلة، لا نعثر فعلًا على مدوّنات كافية لإعطائنا لمحة عن أثر التقسيم على الناس في تلك المنطقة. ربما لأن رسم الحدود "السايكس بيكية"، جاءَ نتيجة لمناطق النفوذ الفرنسية والبريطانية، من دون أدنى انتباه إلى السكان فيها. لكن، السؤال : إلى أي حدّ كان ذلك على حسابهم؟

اقرأ أيضًا: معايير دولية

الحدود، تفصل وتمزّق، وهي وفقًا للمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، في كتابه (في مديح الحدود) : "عمل فكري وأخلاقي" قبل أي شيء. ولم يفته في الكتاب نفسه التركيز على ما يعطي الحدود المرسومة سلطة معترفا بها :" للتضاريس ومجاري المياه، سطوةٌ حاثّة على الإيحاء والاقتراح، لكنها لا تستطيع أن ترقى إلى مصاف الحدود، إلا من خلالٍ قيد تسجيلي مبجلٍ مبهرٍ، فهو وحده الذي يقدر أن يحوّل حادثةً طبيعيةً إلى قاعدة للحق".

وربما كان القيد التسجيلي، هو الوصف الأدق لاتفاق سايكس بيكو، خِلافًا لصنيع داعش، وغيرها من القوى العالمية والإقليمية، التي تعتمد أمورًا أخرى من أجل "وضع" حدود جديدة، وخلق كيانات تستند في نسبة كبيرة منها، إلى المذاهب والطوائف وما إلى ذلك من أمور تروج جدًا في عالمنا العربي الذي ابتدع على ما يظهر "عولمة مقلوبة"، إذ أبدل الجملة الشهيرة : "العالم قرية صغيرة" الناجمة عن قوّة الاتصالات والتكنولوجيا اليوم، بجملة : "العالم قرى صغيرة".

اقرأ أيضًا: تدجين ذاتي

الأمور الأخرى التي تعتمدها داعش والقوى العالمية والإقليمية، قوامها الدم والإكراه والتهجير. أمور تريد أن تفرض واقعًا لا يمكن الرجوع عن تأثيره، من حيث هو يحوّل أبناء المنطقة إلى أعداء أزليين، يتجاوزوا بشطحات كبرى، خيال أكثر المستشرقين خبثًا ومكرًا، عن رغبتنا كعرب في الارتداد إلى مسلمين ومسيحيين، مع تفريعاتهما، ثم سنّة وشيعة، مع تفريعاتهما أيضًا.

الفكرة، إن "سايكس بيكو" التي لم تكن تعجبنا، تبدو اليوم كصورة لشيء يناسبنا لكننا لم نستطع الحفاظ عليه. لكن السؤال، حين كنا في طور أن "سايكس بيكو لا تعجبنا" من حيث هي فرّقتنا: ماذا أردنا من محوها؟ لئن كنا كما "يُقال" حاليًا، مذاهب وطوائف ترتاح في انغلاقها على نفسها، فلماذا هذا الدم، ولماذا هذا التهجير؟ أسئلة تتناسل من تلقائها يوميًا، إذ تتابع يوميًا تمزيق سورية.

دلالات
المساهمون