عودة مبارك.. ما ثاروا ولكن شُبّه لهم
عاد حسني مبارك.. عاد كعودة الأنبياء في آخر الزمان، مظفراً، بصك براءة من محكمة جنايات القاهرة عن كل ما اقترفه، هو والطبقة الحاكمة، التي استباحت الدولة المصرية وشعبها، حتى لم يعد يُسمع لقلبها نبض حياة. فهل يعني هذا الحكم إيذاناً بعودة مبارك وزمانه، وبالتالي نُهيل التراب على الثورة، ونتلو الصلوات عند قبرها؟
من المهم، بعد هذه العودة المشؤومة لمبارك وزمانه، أن يقوم كل من يعنيه الأمر بالمراجعة الشاملة. مراجعة ما جرى في الثلاث سنوات الماضية، من أخطاء كارثية، أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، من انكسارات وإحباطات. على أن هذه المراجعة ينبغي أن تبدأ من فهم وتفسير ثورة 25 يناير ودوافعها، وتتبع مراحلها بدقة، نحو رصد معوقاتها، وإن كان هذا الطلب ليس عملاً يسيراً يمكن أن ينجزه شخص واحد، فضلاً عن استيفاء آلياته في مقالة واحدة. ومن شروط هذه المراجعة أن تكون بعيدة، كل البعد، عن العواطف الجياشة التي تستوجبها حالات التعبئة السياسية، والتي تبثها الأيديولوجيا المناوئة للقوى الحاكمة اليوم، خصوصاً، في جانب القوى الثورية التي شاركت بصدق في الثورة على نظام مبارك، وكان هدفها المعلن، في تلك المرحلة، إسقاط النظام بجميع أركانه، لا مجرد تحسين سلوكه، بتوسيع دائرة المنتفعين منه، وكذلك هو واجبٌ على القوى الديمقراطية في الوطن العربي، الداعمة، أو المتعاطفة مع الثورة، إذا ما كان ثمة عزم على مواصلة الصمود في وجه الثورة المضادة، والانقلاب العسكري الذي رافقها.
في البداية، علينا تأكيد أن ما جرى في مصر لم يكن ثورة مكتملة الأركان، وأن المتظاهرين في ميدان التحرير نجحوا في إبعاد وجه النظام السابق (الرئيس)، من دون أن يسقطوه كاملاً، وإن بدا للثوار، في البداية، نجاحاً سريعاً للثورة، حيث شبّه لهم أن الثورة انتصرت على النظام، وأنها في طريقها إلى استكمال أهدافها. لكن القوى الثورية توقفت عند بوابة الطبقة المنتفعة، أو الطبقة المهيمنة التي كانت تتستر خلف النظام الذي كان يحمي مصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وتستفيد من وجود الرئيس الصوري في ضمان هيمنتها، حيث بقيت، حتى بعد سقوط الرئيس، صامدة مكانها، تدير الإعلام والاقتصاد، وتدبر اللحظة المواتية للانقضاض على الثورة ثم نحرها.
كان يقال في أوج الثورة إن نقطة قوتها الأساسية تتمثل في عدم وجود قيادة معروفة لها، ولا أيديولوجيا واضحة، محركة لتلك الجماهير الغاضبة التي عبأت الميادين، وإن هذا يُصعب على النظام محاصرتها، وبالتالي، الاقتصاص من رموزها، وإجهاضها. لكن اتضح، فيما بعد، أن ما كان بعضهم يظنهُ عنصر قوة، هو في الحقيقة عنصر ضعف، حيث ظلت الثورة عاجزة عن تحديد غايتها النهائية، وإن كانت قد حملت هذه الغاية، كشعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، لكنها، في الحقيقة، اكتفت بإسقاط الرئيس من دون المساس بأركان نظامه السابق، ولا بالطبقة الاجتماعية المهيمنة على الاقتصاد، والتي حولت حياة المصريين إلى جحيم لا يطاق. ومما زاد من معاناة الثورة، وتحجيم انتصاراتها الأولى، هو وجود جماعة الإخوان المسلمين في مقدمتها؛ لأن هذه الجماعة ليست حركة ثورية راديكالية، ولا تحمل مشروعاً ثورياً، يمكنه استبدال هذا النظام بنظام آخر، أكثر ديمقراطية وعدالة، حيث عجزت عن استثمار اللحظة التي وفرتها الثورة، فعوضاً عن السير بها إلى خواتيمها، تفاوضت الحركة مع العسكر، وتشاورت مع الأميركان، ومهادنة قوى إقليمية محافظة، هي، في الأصل، ضد الاحتجاج على النظام المباركي، ناهيك عن فكرة إسقاطه، وليست هذه السياسة جديدة على الحركة، فهي التي أتت بعبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع، وهي التي سبق لها وأن فاوضت النظام الملكي، من أجل السماح لها بمزاولة نشاطاتها الدعوية والسياسية، في عهد مرشدها العام حسن الهضيبي. ولا أعلم صدقاً إن كان بالإمكان تحميل حركة سياسية براغماتية، كالإخوان المسلمين، مسؤولية فشل ثورة وعدم السير بها إلى النهاية، أم على الثوار غير المنظمين، فهي لم تؤمن، منذ الوهلة الأولى، بإسقاط أركان النظام كاملة، بل سعت باتجاه عقد صفقة سياسية معه.
يعلمنا التاريخ أن الثورة لا تكون حقيقية ومكتملة، حيث يمكنها أن تقود نحو تغيير شامل، ما لم تسقط الطبقة التي يحكم النظام بالنيابة عنها، فيمثل مصالحها ويحميها، ويقدمها على مصالح بقية المواطنين، أي الطبقة التي تتحكم بمعاش الناس، وتسلبهم حقوقهم، وتستأثر بخيرات البلاد، وتمنعهم من الاستفادة منها. بهذا المعنى، نستطيع الحكم على ثورة 1952، حينما نجحت حركة الضباط الأحرار المصريين في إسقاط النظام الملكي، وإسقاط الطبقة الإقطاعية المتحالفة معه، والتي كانت في تلك المرحلة من التاريخ تُهيمن على الموارد الاقتصادية. فقد كانت هاتان الطبقتان تتحكمان فيما مقداره 4 ملايين فدان زراعي، من أصل 5 ملايين، في مجتمع يعتمد، أساساً على الزراعة. فأتت الثورة على هؤلاء، لكي تقود، بالضرورة، إلى تحرير الطبقات الاجتماعية الدنيا، والتي كانت تتعرض لظلم شديد من الطبقات المُهيمنة. ما يعني أن الطبقات الاجتماعية في المجتمع المصري تعرضت، فعلاً، لتغيير جذري، أنتج موازين قوى جديدة، أحدثها النظام الجديد الذي قاد الثورة، من خلال مشروعه السياسي التحرري والاقتصادي الاشتراكي، عبر برامج سياسية واضحة الهدف؛ ترنو إلى تحقيق نوعٍ من العدالة الاجتماعية، من خلال برامج محو الأمية وقوانين تملك الأراضي في الريف، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، بالاعتماد على الاقتصاد الصناعي في المدن الكبرى.
كان الثوار المصريون صادقين في خروجهم لتغيير بنية النظام القديم، إلا أن مسيرة الثورة لم تفلح في الوصول إلى عمق الدولة ولهياكلها الاجتماعية والاقتصادية. ويعني الإفراج عن الرئيس المخلوع حسني مبارك، أول ما يعني، انكسار الثورة، وعودة النظام القديم إلى الحكم، لكن، محفوفاً بقاعدة شعبية هذه المرة، وكأن الناس ما ثاروا عليه، ولكن شُبّه لهم!