عودة المستثمرين إلى سوق الخردة

10 فبراير 2019
أغلب المؤشرات تعكس تدهوراً بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي(فرانس برس)
+ الخط -


أعلنت وزارة المالية المصرية قبل أيام، أن سوق الإصدارات الحكومية شهدت خلال يناير/كانون الثاني الماضي، عودة قوية لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين المحلي القابل للتداول من الأذون والسندات، وذلك بعد العودة من إجازات أعياد الميلاد والعام الجديد.

وأضافت الوزارة، في بيان، أن "وتيرة تدفقات استثمارات الأجانب تسارعت منذ بداية العام لتبلغ ذروتها خلال الأسبوع الأخير من الشهر"، بنسبة مشاركة بلغت حوالي 30% في المتوسط في عطاءات أذون الخزانة، وحوالي 55% في عطاء سندات الخزانة لأجلي خمس وعشر سنوات، وهو ما يوضح مدى ثقة المستثمرين الأجانب في أداء الاقتصاد المصري"، بحسب العديد من وسائل الإعلام المصرية.

وتزامن إعلان الوزارة مع صدور تقارير دولية، تشير إلى حدوث انتعاش كبير في سوق سندات الخردة Junk Bonds عالية المخاطر خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، بعد أن تسببت تصريحات رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، جيرومي باول، في تقليل احتمالات رفع البنك الفيدرالي معدلات الفائدة على أمواله، الأمر الذي دفع المستثمرين "المغامرين" لتحمل مخاطر إضافية، مقابل الحصول على عائد مرتفع، قد لا يكون متاحاً في المستقبل القريب.

تصريحات رئيس البنك الفيدرالي، التي أشار فيها إلى احتمال أن تكون دورة رفع معدلات الفائدة على أموال البنك، والتي بدأت في عام 2015، قد وصلت إلى نهايتها، مثلت جرس تنبيه للمستثمرين ممن يرقدون على سيولة نقدية، الأمر الذي دفعهم للتحرك قبل أن تبدأ معدلات الفائدة في الانخفاض مرة أخرى.

لكن الإشارة الأهم التي جاءت في تصريحات باول، كانت تراجع احتمالات حدوث ركود في الاقتصاد الأميركي نهاية العام الحالي، كما كانت تشير التوقعات قبل حوالي ستة أشهر.

واعتبر الكثيرون أن تلك كانت إشارة من البنك إلى المستثمرين "للعودة إلى اتخاذ مزيد من المخاطر مجدداً" عند معدلات الفائدة الحالية.


وكما تسببت توقعات رفع معدلات الفائدة الأميركية في خروج أكثر من عشرة مليارات من الدولارات من سوق أذون وسندات الخزانة المصرية قبل فترة، كان طبيعياً أن يعود جزء منها، بعد صدور إشارات سلوك البنك الفيدرالي، والتي تفيد باتجاه معاكس لما كان يسير فيه خلال العام الماضي، الأمر الذي وصفه الاقتصادي المصري الأميركي الشهير، محمد العريان، يوم الأربعاء الماضي، بعد صدور بيان البنك الفيدرالي، الذي أعقب تثبيته لمعدلات الفائدة، بأنه نقطة لعكس الاتجاه U-turn.

الموضوع إذاً يغلب عليه التوجه العالمي، كنتيجة لتغير نظرة المستثمرين للأسواق العالمية، ولتحركات معدلات الفائدة المستقبلية، وللركود الاقتصادي في الولايات المتحدة، ولا نظن أن "أداء الاقتصاد المصري" في الفترة الأخيرة كان له تأثير يذكر في قرار المستثمرين كما تقول الوزارة.

وبنفس المنطق الذي وافقنا عليه جميعاً قبل عدة أشهر، والذي أشار إلى أن خروج المستثمرين الأجانب من مصر، كان جزءاً من خروجهم الأوسع نطاقاً من الأسواق الناشئة، بسبب ارتفاع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة، وبدون وجود "أداء سيئ" للاقتصاد المصري، يمكن تفسير عودتهم الأخيرة، من دون محاولة إرجاع ذلك لتحسن أداء الاقتصاد المصري. الاقتصاد المصري يمر بمرحلة صعبة جداً.

ورغم كل ما قيل عن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، مازالت أغلب المؤشرات تعكس تدهوراً لا تحسناً، ولا حتى ثباتاً، مقارنةً بمستوياتها قبل تطبيق البرنامج.

وتكشف النظرة المدققة إلى تلك المؤشرات، تضاعف الدين الخارجي تقريباً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وارتفاع الدين العام إلى أعلى مستوياته في تاريخ الاقتصاد المصري، كما التهام فوائد القروض أكثر من نصف ايرادات الدولة كل عام.


ونلاحظ هنا أن خطة التعامل مع الديون التي تعدها الحكومة لا تتجاوز مد أجل بعض القروض، وتنويع مصادر الأخرى، ومازال العجز التجاري في ازدياد، كما عجز ميزان المدفوعات.

ومع تزايد سيطرة المؤسسات السيادية على نشاطات عدة في الاقتصاد المصري، تزداد نسبة المجهول فيه بصورة غير مسبوقة، فلا نعرف شيئاً عن ميزانيات شركات تقدر بالمليارات، ولا ندرس جدوى مشروعات تتكلف مليارات الدولارات، وبالتالي لا يحاسب أحد على قراراته الخاطئة، ولا ندري من أين يتم الإنفاق على عاصمة جديدة للبلاد، يقسم المسؤولون كل يوم أن الدولة لا تتحمل شيئاً من تكلفة إنشائها.

هذا فيما يخص المؤشرات الاقتصادية فقط؛ فإذا أضفنا إليها ملفات الحريات وحقوق الإنسان والمناخ القانوني والفساد والمشاركة السياسية وتعديل الدستور وعدم الفصل بين السلطات، وكلها على صلة وثيقة بأداء الاقتصاد المصري وقدرته على جذب الاستثمار الأجنبي، وكلها أيضاً على درجات من السلبية شديدة الوضوح للقاصي والداني، يكون من الصعب التحدث عن جذب السوق المصرية في وضعها الحالي لأية استثمارات أجنبية.

لكن الشيء المؤسف حقاً في إعلان الوزارة، والتأييد الإعلامي له، هو تأكدنا أن كل مسؤول في الوزارة، أو في أي جهة حكومية اقتصادية، أو في البنك المركزي، يعلمون جيداً هذه الحقائق، ويدركون التردي الحادث في المؤشرات الاقتصادية، كما في مستوى معيشة المصريين، الأمر الذي يؤكد أن تلك التصريحات ليست إلا استمراراً للاستخفاف بعقول المصريين وخداعهم، وهو الأمر الذي لا يمكن قبوله بأي حال.

إخفاء الحقائق والتلاعب بالأرقام لا يصلحان أسلوباً لحل مشاكل البلد الاقتصادية، وتجاهل المشكلات لا يعني عدم وجودها، ومواجهة الشعب بالحقائق، مع التأكد من اعتبارات المساءلة والمحاسبة للمسؤولين عن اتخاذ القرارات شرطان ضروريان لأي إصلاح اقتصادي، حتى لا ينتهي الأمر بإلغاء الدعم وتخفيض قيمة الجنيه ليكونا مجرد ثمن يتحمله المصريون لما ارتكب من خطايا اقتصادية، وبدون أدنى مساهمة في تحسين الأداء الاقتصادي.

بيان وزارة المالية المصرية أكد أن 100% من سندات الخزانة المطروحة لمدة خمس سنوات بعطاء الأسبوع الماضي، كانت من نصيب المؤسسات الاستثمارية الأجنبية، إلا أنه لم يذكر أن قيمة العطاء الإجمالية لم تتجاوز 65 مليون دولار.

المساهمون