هل ما يزال الندبُ التعبيرَ الوحيد عن حال القصة؟ ربما شهدت السنوات القليلة الماضية جديداً يجعل من الحديث عن "هجران" و"تهميش" هذا الشكل الأدبي حديثاً، في أحسن الأحوال، جزئياً. ثمة ما قد تغيّر، كما يبدو، وما يفرض ملاحظته على من يتابع "المشهد الثقافي" العربي.
فهنا يجري الإعلان عن جائزة مخصصة للكتابة القصصية، وهناك يعلن عن قوائم قصيرة وطويلة أو عن أسماء فائزين. سوق القصة تتحرّك، كتابةً ونشراً، كما يبدو. ثمة عناوين تنال اهتمام الصفحات الثقافية، ودور نشر معروفة تنشر قصصاً متوّجة بهذه الجائزة أو تلك. هنا كتّاب شباب يلتفتون إلى هذا الشكل الأدبي المهمل، وهناك آخرون "يصلون إلى العالمية"، كما يقال، بقصصهم. بل إن بعض المجموعات القصصية راحت تنضم إلى تلك القائمة الطويلة من الكتب التي نتحدّث عنها دون أن نكون قد قرأناها. الأمر جديد بلا شك. ما الذي يمكن لهذا التغيّر أن يقوله لنا أو، بالأحرى، ما الذي يمكن قوله انطلاقاً منه؟
لا يُنكر أحدٌ اجتياح مفردة "القصة" لعالمنا في السنوات الماضية. يمكن الإشارة، مثلاً، إلى استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي للمفردة. في الوقت نفسه، صدّرت الصحافة المكتوبة بالإنكليزية فهمها للـ"قصة" إلى بقية أنحاء العالم. بدل الحديث عن خبر أو مقال أو عن تحقيق صحافي، صارت مواقع الصحف تدعونا إلى قراءة "هذه القصة" أو إلى الاطلاع على "قصص أخرى". النصّ الذي يأخذ منحى سردياً بات أكثر تقبلاً من نص جاف لا "يمسك بالقارئ" الذي يتنقل بين أصقاع العالم بحركة بسيطة من إبهامه على زجاج الهاتف المحمول. إن أراد أن يقرأ، وهذا أندر من الفرجة والاستماع، فإن الشعب يريد أن يقرأ سرداً.
لكنْ، إن خرجنا من الحيّز الإعلامي، تصبح المطابقة بين القصة والسرد أمراً نادر الحدوث. في الحقيقة، المطابقة الشائعة، في العقود الأخيرة، تنعقد بدلاً من ذلك بين السرد والرواية. ففي النقاشات كما في النظرية الأدبية، وعند القارئ كما عند المؤلف، صار الروي رديفاً للسرد، وبات الراوي والسارد شيئاً واحداً. يجري الحديث، مثلاً، عن سارد أو راو عليم، وكل مهتمّ بالموضوع يعرف ما يعنيه ذلك. في المقابل، على من يفضّل أن يقول "قاصّ عليم" أن يشرح ما يقصده. كأن معجم الرواية يتمدّد ليحتوي معجم السرد، وأحياناً الأدب، تماماً كما تتمدّد رفوف الروايات في المكتبات لتأخذ مكان رفوف الشعر والفلسفة والإنسانيات وغيرها من حقول الكتابة.
ثمة في الأمر مفارقة ما. في زمن يميل إلى التسارع والعجلة، كان ليبدو بديهياً، في أكثر التحليلات تبسيطاً، أن تصبح القصة الشكلَ الأدبي الأكثر رواجاً. فهي سردٌ موجز، بسيط وفعّال ببساطته نفسها: صفاتٌ كلّها حميدة في الثقافة المهيمنة اليوم. لكن الرواية، ذات النفس الأطول، والأكثر تركيباً وتطلباً للرويّة من القارئ، تُقرأ اليوم، كما يعرف الجميع، أكثر من أي وقت مضى. ما الذي تكتنفه، إذاً - دون القصة - ليجعل منها الشكل الأدبي المهيمن أو الأكثر تعبيراً عن زمننا؟ هذا سؤال نص آخر.
لكن هذا السؤال، بحد ذاته، يقول الكثير عن علاقتنا بالقصة. فحتى عندما نريد معرفة حالها، نجد أنفسنا نسأل عن الرواية. نتحدث عن القصة (وكذلك عن الشعر) سلباً، انطلاقاً من علاقتهما بالرواية. كأن هذه الأخيرة باتت، في يومنا هذا، وحدة القياس الأدبية. حتى العودة إلى القصة، التي نفترض أننا نعيشها منذ عدة سنوات عربياً، تتخذ من الرواية، بشكل أو بآخر، مرآةً أو مقياساً. بل يمكن الذهاب أبعد والقول إنها عودة داخل الرواية نفسها، في أحد المعاني.