عودة "سيد القردة"..

12 يونيو 2014

VasjaKoman

+ الخط -
تقول الأسطورة الصينية، إن رجلاً عجوزاً كان يعيش في ولاية "تشو" الإقطاعية، استطاع البقاء على قيد الحياة، على الرغم من أنه لم يقم بأي عملٍ، يقوت به نفسه. ليس هو، شخصياً، على الأقل. فقد اقتنى هذا العجوز الماكر بضعة قرود، وجعلها تقوم، بطاعة تامة، على خدمته، والكدح في سبيل عيشه، وكان أهالي ولاية "تشو" يسمونه "جو غونغ"، أي "سيد القرَدة". كان رجلنا هذا يفتح أقفاص القرَدة كل صباح، ويجمعها في ساحة بيته، ويأمر أكبرها أن يقودها، كطابور عسكري، إلى الجبال لجمع الفاكهة من الأجمة والأشجار. لم يكن سيد القرَدة يستولي على كدح القردة، بالكامل، لكنه كان يفرض على كل قردٍ أن يقدِّم له عُشر ما يجمع، ويعاقب كلَّ من لم يفعل بجلده، أمام رفاقه القرَدة الآخرين، من دون رحمة. كانت معاناة القرود عظيمة، بيد أنها لم تجرؤ على الشكوى. وفي يوم من الأيام، سأل قرد صغير القرود الأخرى: هل زرع الرجل الهرم جميع أشجار الفاكهة؟ فأجابوه: كلاّ، إنها تنمو وحدها. ثم تساءل القرد الصغير: ألا نستطيع أن نأخذ الفاكهة، من دون إذن الرجل العجوز؟ فأجابوه: نعم نستطيع. فقال القرد الصغير مستنبطاً حكمة من واقع الحال، لم تخطر على بال القردة الكبار: لماذا يتوجب علينا، إذاً، خدمة الرجل العجوز؟
فهمت القرَدة ما كان يرمي إليه القرد الصغير، حتى قبل أن ينهي جملته. وفي الليلة نفسها، عندما غطَّ الرجل العجوز في سبات عميق، مزقت القردة قضبان أقفاصها، واستولت على الفاكهة التي كان "سيدها" قد خزَّنها، وأخذتها إلى الغابة. لم تعد القرَدة إلى الرجل العجوز بعد ذلك أبداً، وفي النهاية مات جوعاً!
يقول يو لي زي، ناقل الحكاية الأصلي، التي سردها جين شارب لاحقاً، في تفسيره لها: يحكم بعض الرجال شعوبهم باتباع الخدع، لا المبادئ الأخلاقية. هؤلاء الحكام يشبهون "سيد القردة"، فهم لا يعون أنه في اللحظة التي يدرك فيها الناس أمرهم، ينتهي مفعول خدعهم".
***
كنت أظن أني لن أعود الى أسطورة سيد القردة، التي كتبت عنها مع اندلاع الربيع العربي، لولا أن سيد القردة، الذي رأيناه يهلك أمام أعيننا، عاد إلى الحياة مرة أخرى. انبعث من رماده، وصرير جنازير دبابته، وتهليل إذاعته، ودماء ضحاياه، وطفق يسعى وراء "القرَدة"، التي مزَّقت أقفاصها، واستعادت خيرات أيديها، وتنفَّست هواء الحرية، كي يعيدها إلى الحظائر والأقفاص. فلا حياة لهذا السيد الماكر، المخاتل، من دون كدح "القرَدة".
 لا يكون "سيد القرَدة" سيداً، لو وعى حقائق التاريخ وأدركها.
 لو استوعب درس الماضي القريب.
لكن، كلاّ.
هذا لم يحصل مع أي سيد قرَدة من قبل.
لا في الشرق، ولا في الغرب.
هناك شيء في تكوينه يمنعه من إدراك ذلك حتى لو رآه رأي العين.
عليه أن يعيد الخطأ نفسه مرة أخرى، غير خائف، هذه المرة، من العواقب، لأنَّ ثمة من أقنعه أنَّ "القرَدة" لا تستطيع العيش طويلاً من دون قفص، ولا تستطيع أن تنتظم في صفوف من دون كرباج، وستحوّل الحرية، بمجرد حصولها عليها، إلى فوضى عارمة. سينعدم الأمن، ويختل الاستقرار، وتقتتل في ما بينها، وسينتهي بها الأمر إلى البحث عنك، فإن لم تجدك اخترعتك!
أليس هذا ما نراه من عودة "مظفرة" للاستبداد إلى بلاد الثورات والانتفاضات العربية، بذريعة الأمن والأمان والاستقرار، والأدهى، تلبُّس هذا الاستبداد لبوس الثورة واستيلاؤه على لغتها وشعارها، بحيث يلتبس الأمر علينا، فلا نعرف إن كنا أمام ثورة، أو ثورة مضادة؟ يظن الاستبداد العائد أن الثورة مسألة لغوية، حيث يمكن للواقع أن يجري في واد، واللغة في وادٍ آخر، لكنه لا يعرف أن الثورة قضية لغةٍ وواقعٍ تصفه هذه اللغة. ولا انفصام، هنا، بين اللغة والواقع. فلا ثورة من دون لغة (بل ثورة في اللغة)، وفي الآن نفسه حدوث تغيير جذريٍّ في الواقع، بحيث لا يعود يشبه نفسه، فإن تعرَّف الواقعُ إلى نفسه في المرآة لا يكون قد تغيَّر.. ولا نكون حيال ثورة.

 
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن