عن نقدٍ يُقلِق سينمائياً: لا داعي للهلع

09 سبتمبر 2020
ستانلي كوبريك وجاك نيكلسون: جمال السينما أهمّ من النقد (موراي كلوز/سيغما/Getty)
+ الخط -

يستاء سينمائيون عديدون من نقدٍ يستعين بمقتطفات من أفلامهم في قراءته إياها، قبل إطلاق عروضها التجارية، أو إكمال مشاركاتها في مهرجانات مختلفة. يعتبرون أنّ استعانةً كهذه، إنْ تفشي لقطاتٍ وحكاياتٍ وحالات، تحول دون مُشاهدةٍ يُفترض بها أنْ تمتلك مقوّمات المفاجأة ودقّة المتابعة وعفوية التواصل. هذا غير صحيح كلّياً. قلقُ السينمائيين غير مُبرَّر، لأنّه يعكس قلّة ثقة بالذات والصنيع والاشتغال، إذْ مهما يكشف كلّ كلامٍ عن فيلمٍ غير معروض جماهيرياً، عاكساً بعض مناخه ومساره ومرويّاته وشخصياته، لن يختزله ولن يفضحه ولن يُعرّيه، ولن يمنح القارئ جزءاً يسيراً من متعة المُشاهدة، إنْ يُثير الفيلم مُتعاً وتساؤلات وتفكيراً وتقارباً وتأثّرات.

سينمائيون غربيون يطلبون من نقّادٍ وصحافيين عدم البوح بخاتمةٍ أو قصّة أو تفاصيل، فيستجيب هؤلاء لهم التزاماً بأخلاقية مهنيّة، أو رغبة منهم في منح المُشاهِد/ القارئ تلك المساحة الذاتية الخاصّة به إزاء صنيع سينمائيّ ما، أو لأنّ الفيلم المذكور محتاج إلى صدمة المُشَاهَدة. سينمائيون عرب يقولون الأمر نفسه، مباشرة أو مُداورة، ونقّاد وصحافيون سينمائيون قليلون يوافقون. إنْ يصمت هؤلاء السينمائيون، فإنّ نقّاداً وصحافيين يُدركون، عند مُشاهدتهم أفلامهم، ما يُفترض بهم أنْ يفعلوه: التغاضي عن تفاصيل، أو عدم التغاضي عنها، لحاجةٍ إلى أمثلةٍ تدعم تحليلاً أو قراءة أو مناقشة أو حواراً.

لكنّ المسألة أوضح من كلّ تفسير. فالنقد العربيّ غير مقروء بكثرة تساوي أو تتجاوز كثرة المُشاهَدة، في عالم عربيّ غارقٍ في جهلٍ مدقع، وأميّة تنفلش على أحوال العيش اليوميّ. أما قارئ النقد ـ إنْ يسقط في "فخّ" معرفة الفيلم قبل مُشاهدته، مكتفياً بالقراءة من دون المُشاهدة، تلك القراءة التي يظنّ البعض أنّها ستُعطِّل عفوية المُشاهدة لديه ـ يتحمّل مسؤولية اكتفائه بقراءةٍ غير قادرة البتّة على نبش كلّ شيء، وفضح كلّ شيء، واستباق أي انفعال أو تواصل مع الصنيع السينمائي، رغم أنّ وظيفتها (القراءة النقدية) غير مرتبطة بنبشٍ وفضحٍ واستباقٍ، بل بتحليلٍ وتفكيكٍ يحتاجان، أحياناً، إلى تفسير مشهدٍ أو لقطة فتسرد مقتطفات منهما، يظنّ المخرج أنّ كشفها في مقالة "يحرق" عمله، وهذا مُنافٍ لواقعٍ، فالكشف عاجزٌ عن تقديمِ "كُلِّ" الفيلم.

اكتفاء قارئ/ مُشاهد بمقالةٍ، تسبق العرض التجاري لفيلمٍ، مُشكلة خاصّة به. كلّ كتابة، مهما تبلغ من إبداع وتألّق وتأثير، لن تتمكّن من إلغاء المُشاهدة، وهذا ما تفعله الكتابة أصلاً: عدم إلغاء المُشاهدة، بل التحريض عليها بأي شكلٍ. المُشاهدة أساسية، وقلق المخرج إزاء ما يظّنه "حَرقاً" للفيلم حكرٌ عليه وحده، فقلق كهذا يعني، ربما، أنّ هناك مأزقاً ما في المخرج وفيلمه، وفي كيفية اشتغاله وآلية عمله. إحصاءات القراءة العامة في العالم العربي كفيلةٌ بتبديد كلّ قلقٍ، لشدّة هبوط نسبتها (القراءة العامة)؛ وثقة المخرج بذاته ـ وبعمله ومساره المهنيّ وثقافته ووعيه المعرفي وانفعالاته ـ يُفترض بها إثارة قلقٍ من نوع آخر، مرتبط بكلّ نقاشٍ ينبثق من الفيلم ومُشاهدته، ويُثيره نقّاد وصحافيون سينمائيون ومُشاهدون مهتمّون.

 

موقف
التحديثات الحية

 

كلامٌ كهذا يتعلّق بنقدٍ وصحافة سينمائية (رغم تفاوتٍ مهني وثقافي بينهما)، لا بصحافة فنية معنيّة بأخبار ونمائم، وبحوارات غير مُهتمّة بالسينما كفنّ وثقافة وصناعة وجماليات وأفكار وتأمّلات. فالنقد غير مكترثٍ بمقالة تروي حكاية الفيلم (هذا عملٌ مرفوض، لكنّ الصحافة الفنية تتفنّن غالباً في ممارسته)، مع أنّ أفلاماً كثيرة منفضّة بشكل أو بآخر عن قصص ومرويّات، بالمعنى الحرفي لمفردة "مُنفضّة". فالسينما حالة وصُوَر واشتغالات فنية وتقنية، والتعبير عبرها بصري وانفعالي، إلى جانب كلامٍ وحوار ومسائل وسجالاتٍ، وهذا جزءٌ من البناء السينمائي للفيلم. وإنْ تكن السينما حكاية فقط، فهذه مشكلة، لأنّ الأجمل والأهمّ يكمنان في تحرّر الفيلم من طغيان الحكاية على حساب الجماليات الأخرى.

المقالة، المستندة إلى سرد حكاية الفيلم بـ"التفصيل المُمِلّ"، غير نقدية وغير سجالية وغير معنيّة بنقاش وحوار. فيلمٌ كهذا عاجزٌ عن كلّ تحريض على نقدٍ وسجال ونقاش، وإنْ تكن حكايته قابلة لتحريض كهذا. كاتبو مقالاتٍ تسرد الحكايات من بداياتها إلى نهاياتها يُثيرون، بـ"تأليفاتهم" تلك، قَلقَ سينمائيٍّ، وإنْ يُحرِّر فيلمه من إسرافٍ في القصص والمرويّات. "سرد" الفيلم مُصيبة تُسيء إلى الفيلم وصانعه، وإلى المُشاهد وانفعالاته ووعيه وثقافته، وإلى الناقد ونقده، وهذا ـ إنْ يحدث ـ يُثير قلقاً.

الكتابة النقدية تُحرِّض قارئاً على مُشاهدة المنقود، إنْ يرغب المُشاهد في قراءة تسبق المُشاهدة. قليلون هم الذين يقرأون قبل المُشاهدة، مكتفين بمتابعة أخبار متعلّقة بمخرج أو ممثلة أو مشروع أو إنتاجٍ. المُشاهدة تفضي إلى رأي وانفعال، يتكاملان معاً في سياقٍ حواري مفتوح مع النصّ السينمائي وصاحبه والعاملين فيه، ويكون للنقد حضورٌ في هذا كلّه.

لذا، لا داعي لهلعِ سينمائيٍّ إزاء نقدٍ يستعين بتفاصيل من فيلمه غير المعروض تجارياً. فلا المُشاهِد السينمائي مأسورٌ برأي وتحليل نقديين سابقين على المُشاهدة (إنْ يفعل هذا فالمسؤولية واقعة عليه)، ولا الناقد قادرٌ على تأثيرٍ جماهيريٍّ في عالمٍ عربيّ يُعاني انعدام القراءة العامّة والمُشاهدة السينمائية غير التجارية والاستهلاكية البحتة.

المساهمون