أكد وزير المالية المصري، الدكتور محمد معيط، أن استمرار الجهود الحكومية لخفض عجز الموازنة أدى إلى انخفاض العجز المالي الكلي من أعلى مستوياته عند 16.7% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2013 - 2014 إلى 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2017 - 2018.
وأشار وزير المالية، خلال كلمته في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي عُقدت في مصر مؤخراً، إلى توقعات أن يبلغ العجز نحو 8.4% في العام المالي الحالي، مبينًا أن المستهدف الوصول إلى 7% في العام المالي المقبل 2019 - 2020، وهي بالتأكيد أخبار عظيمة وتوقعات مُبشرة، تسعد كل مصري، وتنشر البهجة في قلوب الملايين ممن باتوا يعانون تحت وطأة الغلاء، وانخفاض قدراتهم الشرائية، وتردي الخدمات المقدمة إليهم، من تعليم وصحة وصرف صحي.
لكن بعيداً عن تصريحات الوزير، توجد بعض المؤشرات الاقتصادية التي تشير إلى اتجاه مخالف لتوقعاته، لا أذكرها للتقليل من جهود الوزارة في الإصلاح الاقتصادي، وإنما لمحاولة قراءة المشهد الاقتصادي المصري بصورة سليمة، الأمر الذي قد يساعد على استشراف المستقبل الاقتصادي لمصر، ومعرفة ما يجب أن نتوقعه في الفترة القادمة.
بداية، لا أعرف من أين أتى الوزير برقم 16.7% الذي قدر به العجز المالي في عام 2013 - 2014، حيث يشير العديد من المواقع الموثوق بها، ومنها موقع تريدينغ إيكونوميكس الذي ينشر إحصاءات مالية واقتصادية عن كل دول العالم تقريباً، إلى عدم تجاوز العجز المالي في مصر نسبة 13.3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2013-2014.
أضف إلى ذلك أن بيانات وزارة المالية والبنك المركزي المصريين، تشير جميعها إلى حقيقة ارتفاع الدين المحلي، وتزايد ما تشكله نسبة خدمة الدين (من فوائد مدفوعة فقط) من إجمالي نفقات الحكومة المصرية، بصورة منتظمة طوال الفترة من 2013 إلى 2018، وهي الفترة التي تحدث عنها الوزير، حتى وصل الدين المحلي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، وتجاوز الدين العام نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي في آخر الفترة المشار إليها، بعد أن كان يمثل 87% فقط في بدايتها.
ومن ناحية أخرى، فقد استحوذ بند خدمة الدين على ما يقرب من نصف ما تنفقه الحكومة المصرية كل عام. فهل نسعد بانخفاض عجز الموازنة المزعوم، رغم الارتفاع المؤكد للدين الحكومي والفائدة المدفوعة عليه خلال الفترة نفسها؟!
أضف إلى ما سبق، أن هناك العديد من البنود التي لم تنل حظها من إنفاق الدولة، مثلما حدث مع الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي، رغم وجود النصوص الدستورية الواضحة.
ومع إضافة ما تم تقليصه من دعم حكومي للماء والكهرباء والوقود ورغيف الخبز، وما تم توفيره من أجور ومرتبات العاملين بالدولة، في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فقد كان يفترض أن ينخفض الإنفاق الحكومي، وبالتالي العجز المالي، بصورة أكبر كثيراً مما تم بالفعل.
لكن ذلك لم يحدث، وهو ما دعا الكثيرين إلى توقع وجود "تسريب" في بند آخر من بنود الإنفاق الحكومي، يقوم دائماً بالتهام ما يتم توفيره من انفاق حكومي يمس حياة المواطن المصري ويزيد من معاناته.
لا يحتاج الأمر إلى بذل الكثير من الجهد لمعرفة سبب "التسريب". فإذا اعتبرنا - للتبسيط فقط - أن النقطة التي تعادل فيها الدين العام مع الناتج المحلي الإجمالي (أي أنه أصبح يمثل 100% منه) هي نقطة الصفر، فإن معدل زيادة كل منهما في كل عام سيوضح لنا إذا ما كانت هذه النسبة سترتفع أم ستنخفض.
وإذا كان الدين العام يزيد بمعدل يتجاوز 15% على أقل تقدير، تمثل متوسط الفائدة المدفوعة على الدين المحلي والخارجي، بافتراض أن الأول يشكل 70% من الدين العام، بينما يشكل الأخير نسبة 30% الباقية، فإن أي معدل نمو للاقتصاد المصري يقل عن 15% (وهو معدل لا نصل إليه إلا في الأحلام)، سينتج عنه بصورة مباشرة ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما سيتسبب في ابتلاع أي وفورات، وزيادة ما يستأثر به بند خدمة الدين، من إجمالي نفقات الحكومة، وبالتالي استمرار الضغط على العجز المالي المصري.
اقــرأ أيضاً
ورغم أن الظروف الخارجية كانت رحيمة بنا، حيث انخفضت الأسعار العالمية للنفط من أكثر من ثمانين دولاراً للبرميل في بداية شهر أكتوبر 2018، إلى ما يقرب من 55 دولاراً للبرميل خلال الأسابيع الماضية، وهو ما يعني انخفاض المبلغ الموجه لدعم أسعار بيع الوقود للمواطنين، قبل رفعه تماماً بانتهاء العام المالي في يونيو / حزيران 2019، إلا أن ذلك لن يكون كافياً، ما لم تبدأ الحكومة المصرية فوراً في تخفيض مستوي الدين العام، المحلي والخارجي، قبل خروجهما عن السيطرة.
وارد جداً في كل بلاد العالم أن تخطئ الحكومات، أو أن تتبع سياسات تؤدي إلى اختلالات هيكلية وعثرات مالية واقتصادية، لكن الطبيعي أن تكون هناك جهات خارج الحكومة، تراقب أداءها، وتطلب تفسيراً لما يحدث من تلك الاختلالات، حتى تتمكن من تصويب السياسات الخاطئة، أو الدفاع عن السياسات السليمة أمام المواطنين، وهنا تحديداً تكمن أكبر مشاكل المصريين.
المجالس النيابية المنتخبة مطلوب منها ممارسة دورها الذي انتخبت من أجله، وهو حماية مصالح المصريين، ومن المؤكد أن تحقيق هذا الهدف لا يتم إلا عبر بوابة قيام مجلس النواب بمراقبة نفقات وإيرادات الحكومة، ومحاسبة المسؤولين عن اتخاذ القرارات في كل بند منها.
ولو أمعن مجلس النواب النظر في الأرقام التي تحدث عنها الوزير، لأمكنهم اكتشاف الكثير من مواطن الضعف في حديثه. ولو كانوا فعلوا ذلك في الفترة الماضية، لكان وضعنا الآن أفضل كثيراً مما تصوره، أو مما حاول إقناعنا بأنه الحقيقة.
وأشار وزير المالية، خلال كلمته في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي عُقدت في مصر مؤخراً، إلى توقعات أن يبلغ العجز نحو 8.4% في العام المالي الحالي، مبينًا أن المستهدف الوصول إلى 7% في العام المالي المقبل 2019 - 2020، وهي بالتأكيد أخبار عظيمة وتوقعات مُبشرة، تسعد كل مصري، وتنشر البهجة في قلوب الملايين ممن باتوا يعانون تحت وطأة الغلاء، وانخفاض قدراتهم الشرائية، وتردي الخدمات المقدمة إليهم، من تعليم وصحة وصرف صحي.
لكن بعيداً عن تصريحات الوزير، توجد بعض المؤشرات الاقتصادية التي تشير إلى اتجاه مخالف لتوقعاته، لا أذكرها للتقليل من جهود الوزارة في الإصلاح الاقتصادي، وإنما لمحاولة قراءة المشهد الاقتصادي المصري بصورة سليمة، الأمر الذي قد يساعد على استشراف المستقبل الاقتصادي لمصر، ومعرفة ما يجب أن نتوقعه في الفترة القادمة.
بداية، لا أعرف من أين أتى الوزير برقم 16.7% الذي قدر به العجز المالي في عام 2013 - 2014، حيث يشير العديد من المواقع الموثوق بها، ومنها موقع تريدينغ إيكونوميكس الذي ينشر إحصاءات مالية واقتصادية عن كل دول العالم تقريباً، إلى عدم تجاوز العجز المالي في مصر نسبة 13.3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2013-2014.
أضف إلى ذلك أن بيانات وزارة المالية والبنك المركزي المصريين، تشير جميعها إلى حقيقة ارتفاع الدين المحلي، وتزايد ما تشكله نسبة خدمة الدين (من فوائد مدفوعة فقط) من إجمالي نفقات الحكومة المصرية، بصورة منتظمة طوال الفترة من 2013 إلى 2018، وهي الفترة التي تحدث عنها الوزير، حتى وصل الدين المحلي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، وتجاوز الدين العام نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي في آخر الفترة المشار إليها، بعد أن كان يمثل 87% فقط في بدايتها.
ومن ناحية أخرى، فقد استحوذ بند خدمة الدين على ما يقرب من نصف ما تنفقه الحكومة المصرية كل عام. فهل نسعد بانخفاض عجز الموازنة المزعوم، رغم الارتفاع المؤكد للدين الحكومي والفائدة المدفوعة عليه خلال الفترة نفسها؟!
أضف إلى ما سبق، أن هناك العديد من البنود التي لم تنل حظها من إنفاق الدولة، مثلما حدث مع الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي، رغم وجود النصوص الدستورية الواضحة.
ومع إضافة ما تم تقليصه من دعم حكومي للماء والكهرباء والوقود ورغيف الخبز، وما تم توفيره من أجور ومرتبات العاملين بالدولة، في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فقد كان يفترض أن ينخفض الإنفاق الحكومي، وبالتالي العجز المالي، بصورة أكبر كثيراً مما تم بالفعل.
لكن ذلك لم يحدث، وهو ما دعا الكثيرين إلى توقع وجود "تسريب" في بند آخر من بنود الإنفاق الحكومي، يقوم دائماً بالتهام ما يتم توفيره من انفاق حكومي يمس حياة المواطن المصري ويزيد من معاناته.
لا يحتاج الأمر إلى بذل الكثير من الجهد لمعرفة سبب "التسريب". فإذا اعتبرنا - للتبسيط فقط - أن النقطة التي تعادل فيها الدين العام مع الناتج المحلي الإجمالي (أي أنه أصبح يمثل 100% منه) هي نقطة الصفر، فإن معدل زيادة كل منهما في كل عام سيوضح لنا إذا ما كانت هذه النسبة سترتفع أم ستنخفض.
وإذا كان الدين العام يزيد بمعدل يتجاوز 15% على أقل تقدير، تمثل متوسط الفائدة المدفوعة على الدين المحلي والخارجي، بافتراض أن الأول يشكل 70% من الدين العام، بينما يشكل الأخير نسبة 30% الباقية، فإن أي معدل نمو للاقتصاد المصري يقل عن 15% (وهو معدل لا نصل إليه إلا في الأحلام)، سينتج عنه بصورة مباشرة ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما سيتسبب في ابتلاع أي وفورات، وزيادة ما يستأثر به بند خدمة الدين، من إجمالي نفقات الحكومة، وبالتالي استمرار الضغط على العجز المالي المصري.
وارد جداً في كل بلاد العالم أن تخطئ الحكومات، أو أن تتبع سياسات تؤدي إلى اختلالات هيكلية وعثرات مالية واقتصادية، لكن الطبيعي أن تكون هناك جهات خارج الحكومة، تراقب أداءها، وتطلب تفسيراً لما يحدث من تلك الاختلالات، حتى تتمكن من تصويب السياسات الخاطئة، أو الدفاع عن السياسات السليمة أمام المواطنين، وهنا تحديداً تكمن أكبر مشاكل المصريين.
المجالس النيابية المنتخبة مطلوب منها ممارسة دورها الذي انتخبت من أجله، وهو حماية مصالح المصريين، ومن المؤكد أن تحقيق هذا الهدف لا يتم إلا عبر بوابة قيام مجلس النواب بمراقبة نفقات وإيرادات الحكومة، ومحاسبة المسؤولين عن اتخاذ القرارات في كل بند منها.
ولو أمعن مجلس النواب النظر في الأرقام التي تحدث عنها الوزير، لأمكنهم اكتشاف الكثير من مواطن الضعف في حديثه. ولو كانوا فعلوا ذلك في الفترة الماضية، لكان وضعنا الآن أفضل كثيراً مما تصوره، أو مما حاول إقناعنا بأنه الحقيقة.