عن محمود درويش .. بلا مناسبة

13 ابريل 2014
+ الخط -

كلما أقبل آذار جديد، مكتظ بالمناسبات الكثيرة، تصيبني غصّةٌ حارقةٌ، تشبه شوكةً مستقرةً في الحلق، حين أتذكر أنه رحل حقاً، ومضى إلى غير رجعة.
حرصتُ دائماً، مثل كثيرين من محبيه وأصدقائه على تهنئته بعيد ميلاده المتزامن مع انبثاق الإشارات المبكرة للربيع، حين تُحرّضنا الحياة على عشق تفاصيلها الصغيرة، وتقترح علينا أشكال الجمال المؤقت، الهارب بالضرورة.
تعودت أَن أُرسل إليه احتفالاً بالمناسبة: باقة عباد شمس، لأني سمعته مرة يعبّر عن حبه الورود الصفراء اللون، على اختلاف أشكالها. فعلتُ ذلك أكثر من مرة، حين تصادف وجوده في عمّان، وهو كثير الأسفار، دائم التجوال بين عواصم الدنيا. كان يبادرني بمكالمةٍ هاتفيةٍ، شديدة التهذيب واللباقة، يشكرني فيها على الالتفاتة، وعلى الرغم من عطب ذاكرتي الأزلي فيما يتعلق بالأرقام والتواريخ، فإنني تمكنت من حفظ تاريخ ميلاده، ليقيني أنه يوم سيدخل تاريخ العرب الحديث، يوم مميز، حيث ولد بينهم أمير شعراءٍ استثنائي، لا يضاهيه أحد.
أذكر أنني مازحته، مرةً، حول صعوبة التعاطي مع مواليد برج الحوت المعروفين بأنانيتهم ونزقهم ومزاجيتهم وعصبيتهم وحساسيتهم المفرطة، وحدّة طباعهم بشكل عام، فشنَّ، بدوره، هجوماً فلكياً مضاداً على مواليد برج الجوزاء، واتهمهم بالازدواجية وغرابة الأطوار، مؤكداً أَنه من أَسوأ الأَبراج قاطبة، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالنساء! قال مرةً بالحرف: النساء الجوزائيات مجنوناتٌ في العادة.
ما أعرفه، أَنه لا يحب، ولا يتحمس لحفلات أعياد الميلاد عموماً، ولا يشارك فيها لأي ظرف. حدث أَن رتبنا حفل ميلاد مفاجئاً لصديقه الأقرب، وجاره الذي كان يطلق عليه لقب (الأميغو)، غانم زريقات. وعلى الرغم من متانة العلاقة التي تربطهما، اعتذر عن الحضور، ومنزله يبعد خطوات قليلة فقط، لأنه يكره الضجيج. وغالباً ما كان يقلل من شأن عيد ميلاده؛ يحاول تفادي الإشارة إليه، ويتعامل مع المناسبة بسخرية عاليةٍ، واستخفاف كبير.
وكما هو جلي في منجزه الشعري، وفي سلوكه الإنساني، كان مسكوناً بهاجس الموت وقلق الوجود، غير متحمس لفكرة الشيخوخة، حيث تردّي الروح قبل الجسد! رافضاً بالمطلق فكرة الاتكاء على الآخرين، والعجز الذي قد يطيح بكبرياء الجسد وخصوصيته، عبّر عن ذلك الرفض باعتداد كبيرٍ، ميّز شخصيته ورافقه طوال حياته.
مناقشاً بشكل جدي في أيامه الأخيرة، قبيل إجراء العملية الجراحية المشؤومة، فكرة الموت الرحيم، متسائلاً عن الدول التي تبيح مثل هذا الخلاص الاختياري. ظل الشاعر حتى اللحظة الأخيرة محافظاً على مظهره الجميل الرشيق، كشاب مفرط الوسامة بالغ الأناقة. قالت له صديقة، وهي تداري دمعتها: عليك أن تعود إلينا. ردَّ بحسم: شريطة أن أفعل ذلك سائراً على قدمي.
 كان ذلك ليلة ودّعناه في رحلته الأخيرة، حيث حلت الفجيعة.
الآن، بعد مرور سنوات، يبدو كل آذار يمر علينا، بلا نفعٍ كبيرٍ سوى نكء جرحنا في ظل الحقيقة الموجعة التي تؤكد أن صاحب العيد خرج ولم يعد، ولن يستقبل أياً من مكالمات الأصدقاء، وأن باب شقته في حي عبدون في عمّان لن يفتح لتسلم باقات ورود إضافية.
لذلك، طبيعي أن يحل الأسى في أرواحنا المشتاقة لطلته الحلوة، وأن يتعاظم الإحساس بالخسارة لدى كل من أحب ذلك الشاعر، الإنسان، الشهاب الخاطف الذي هوى سريعاً، من دون أن يمنحنا فرصة كافية لالتقاط أنفاسنا. مخلفاً لنا كل ذلك البريق العصي على الانطفاء.
ملاحظة: ما زلت ابتاع باقة عباد شمس صغيرة، منتصف كل آذار.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.