عن فرسان العراق الثلاثة

15 ابريل 2020
+ الخط -
لو كان صاحب رواية "الفرسان الثلاثة"، ألكسندر دوماس، حيّاً لأعاد كتابة روايته التي قرأناها زمن الفتوة، مستلهماً أحداث العراق في هذا الزمن الموغل في الرداءة، والتي فاقت، في وحشيتها ومكائدها ومؤامراتها، تلك التي شهدها الفرنسيون في القرن السابع عشر، ورصد دوماس جانباً منها في روايته، حيث الصراع على السلطة كان قد بلغ أشده بين الملك لويس الثالث عشر وكاردينال الكنيسة الكاثوليكية اللذيْن يتوافقان على أمورٍ كثيرة، لكنهما يختلفان في أمور أخرى، ويتآمر أحدهما ضد الآخر سرّاً فيما يتطارحان الودّ علناً، وكان يتبع كلّاً منهما فرسانٌ وحرسٌ وسوقة وقطّاع طرق، وانعكس ذلك في فوضى شاملة عمّت البلاد، وعانى منها المواطنون العاديون الكثير.
أفاض دوماس، في تلك الرواية، في تسجيل وقائع وحكايات فرسان ثلاثة يتبعون الملك، ولكن كانت لهم أدوارهم في اللعب على الحبال، ومداراة أوضاعهم بين الدولة والكنيسة، وقد ربط بينهم ضربٌ من الصداقة المتينة، على الرغم من تنافسهم على الغنائم والامتيازات والأسلاب، وكانت لكل منهم أسراره وارتباطاته الخاصة التي يحاول إخفاءها عن الآخرين.
ثمّة أوجه شبه كثيرة بين تلك الوقائع (والحكايات) ووقائع وحكايات عصرنا، وبين شخوص تلك الأحداث وشخوص الأحداث الماثلة في بلادنا، والتاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتكرّر بتفصيلاتٍ وتعديلاتٍ كي يبدو جديداً، تلك هي من أحكام الزمان وأقداره.
الفرسان العراقيون الثلاثة الذين تقصّينا أخبارهم، وأدركنا مقاصدهم، هم الذين دخلوا في سباق 
الفوز بكعكة الحكومة الجديدة التي رست، في نهاية المطاف، على ثالثهم مصطفى الكاظمي الذي يصفه قريبٌ منه بأنه "لاعب شطرنج ماهر، ومطلع على أسرار نجوم السياسة، وقد تعلّم، كأي رجل مخابرات نشيط، كيف يمشي على الخيط الرفيع الممدود بين واشنطن وطهران بمهارةٍ يُحسد عليها، إلى درجة أن كلّاً من العاصمتين تعتبره الأقرب إليها من العاصمة الثانية، كما عرف كيف يستخدم المال العام الذي وفّره له عمله في المخابرات، في دعم فضائيات وصحف وإنشاء جيوش إلكترونية تدين له بالطاعة، وتعمل على تلميع صورته". وقد استطاع من خلال تماهيه مع ما يطلبه الخصمان اللدودان الراعيان للعملية السياسية أن يظفر بالجائزة الكبرى التي ظلت محط أنظار كثيرين أربعة أشهر عريضة، وأن يخرج من المنافسة صنويه الآخرين، محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي، اللذين اكتفيا من الغنيمة بالإياب.
وبحسب ما برّر علاوي انسحابه من السباق، فإن "جهات سياسية غارقة بالفساد ومتاجرة بالطائفية وضعت العراقيل أمام ولادة حكومة مستقلة من أجل الوطن، وسعت إلى تمرير أجندة معينة". ودعا المنتفضين إلى استمرار تظاهراتهم "لكي لا تضيع تضحياتكم سدى"، ولكي "لا ينزلق العراق إلى المجهول"، فيما زعم الزرفي أنه أراد أن يجعل "العراق أولاً"، وأن تكون المصالح العراقية العليا البوصلة التي يعتمد عليها، ورأى أن "إرادةً خفيةً لا تريد أن يُبنى شيء في العراق"، كما غمز من قناة الإيرانيين بإشارته: "نحن نحترم الإيرانيين، ولكننا يجب أن نكون دولة حقيقية بعيدة عن التدخلات". ويبدو أن نيته هذه التي يكون قد أفصح عنها في مباحثاته مع الكتل هي التي كانت القشّة التي دفعت طهران إلى التدخل المباشر والتطويح به، إذ وصل إلى بغداد على عجل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، ليبلغ العراقيين الرفض المطلق له. وفي الساعة التي حطت فيها طائرته في مطار بغداد، ارتفعت أسهم مصطفى الكاظمي ولمع نجمه، وليحصل إثر ذلك على كتاب التكليف، وسط حفاوة رؤساء الكتل الذين حضروا إلى القصر الرئاسي في سابقة غير معهودة، أما هو فقد تعمّد أن تكون تغريدته الأولى "حمّالة أوجه"، عبر إشارته إلى أهداف "صون السيادة، وحفظ الحقوق، وحل الأزمات، ودفع عجلة الاقتصاد". وإذا كانت بعض المليشيات الولائية المرتبطة بالحرس الثوري قد هاجمته، واعتبرته "صنيعة أميركا"، فإنه لم يلق بالاً لها واعتبرها مجرّد ضربة حبيب، و"ضرب الحبيب زبيب". وقد تعكس وجهة نظر جناح متطرّف في طهران، ولذا سارعت وزارة الخارجية الإيرانية إلى نقضها من خلال التأكيد أنّ تكليف الكاظمي "خطوة في الاتجاه الصحيح"، معربة عن "استعداد الجمهورية الإسلامية الكامل للتعاون معه لتجاوز مشكلات البلاد".
نحن، إذن، أمام فصل مستجدّ في مسار "وباء" العملية السياسية الماثلة لا يبشّر بجديد، وقد يحمل من المكائد ما يتفوّق به على سابقيه من الفصول التي "أكلت" منا ومن العراق الكثير.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"