عن طهران في بغداد وبيروت

23 نوفمبر 2019
+ الخط -
ما يحدث في لبنان والعراق غير مسبوق بكل المقاييس. خلال أسابيع قليلة، تحولت من عواصم عربية (مع دمشق وصنعاء) تحيك خيوط سلطتها طهران إلى عواصم تهدد نفوذ الملالي الإقليمي. حراك شعبي شبابي عفوي لا قيادة معلنة أو معروفة له، حراك لا طائفي ولا مذهبي، وبالأخص والأهم ثائر على سلطة الأحزاب المتسلطة والمتهالكة، فهل انفجار الاحتجاجات في إيران نفسها سيساهم في إعطاء زخم لانتفاضتي لبنان والعراق، أم أنها ستقمع بالحديد والنار كما حدث لـ"الثورة الخضراء" عام 2009 ولانتفاضة 2017، ما سيؤدي بالتالي إلى إجهاض الثلاث معا بطرق ووسائل مختلفة؟ هذا ما يبدو أنه المصير المحتوم لانتفاضة الإيرانيين. 
أسقطت الانتفاضة في لبنان في أسابيع قليلة حكومة سلطة فاشلة وفاسدة، عمادها الثلاثي حزب الله - عون - الحريري، ومنعت مجلس النواب من الانعقاد مرتين خلال أسبوع في محاولة تمرير قانون عفو عام، وأجهضت محاولة تكليف رئيس حكومة جديد من الطقم السياسي والفاسد نفسه. وفي العراق، يستمر التحشيد في العاصمة بغداد ومدن الجنوب والوسط، والتأكيد على المطالب التي يرفعها المتظاهرون منذ بداية الانتفاضة في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأبرزها استقالة الحكومة ورئيس الجمهورية، ووضع قانون انتخابي جديد وإجراء انتخابات مبكرة تحت إشراف الأمم المتحدة، وإنشاء محكمة متخصصة بقضايا الفساد منذ 2003. وهي المطالب نفسها التي يرفعها المتظاهرون في لبنان، ويلخصها شعار "كلن يعني كلن"! الفرق الوحيد والجوهري أن آلة قتل الأجهزة الأمنية في العراق حصدت نحو 350 شخصا وأكثر من ستة آلاف جريح. أما في لبنان فقد سقط خلال خمسة أسابيع ثلاثة أشخاص فقط، واحد منهم بسبب وقوعه من علو شاهق في ساحة الاعتصام. ويعود هذا الفارق إلى أن الجيش اللبناني يسلك نهجا "حياديا" يقوم على حماية المتظاهرين، والحفاظ على أمن الناس والمرافق العامة، ولا يجاري السلطة في رغبتها قمع الحراك.
في خلفية هذا المشهد، هناك صراع يدور في الكواليس بين السلطة السياسية، وتحديدا الثنائي عون 
- نصرالله اللذين بدآ يتوجسان من قائد الجيش وطموحه الرئاسي، والذي يمكن أن يشكل مخرجا للمأزق الحالي، وفي كل الأحوال منافسا قويا للطموح الرئاسي لصهر رئيس الجمهورية، رئيس التيار العوني جبران باسيل. علما أن عون هو من اختار قائد الجيش الحالي (جوزف عون). وخيار قائد الجيش رئيسا يعزّزه تركيز الولايات المتحدة عليه وزيادة دعمها وتمويلها الجيش اللبناني الذي تعتبره، إلى جانب المصرف المركزي، الركيزة الأساسية للحفاظ على أمن لبنان ونظامه واستقرارهما، في مقابل تشديدها العقوبات على حزب الله وتضييقها الحصار المالي عليه، عبر الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي، وعمّمها على جميع المصارف اللبنانية. ومن مفارقات هذا الكباش في الصراع على السلطة الذي أشعلته الانتفاضة الشعبية، توجس حزب الله من سلوك قائد الجيش، وميله الشديد إلى عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، على الرغم من أن الرجل يشترط للعودة والقبول بالتكليف تشكيل حكومة من اختصاصيين غير حزبيين. وهذه ما زالت نقطة الخلاف بين نصرالله وعون من جهة والحريري من جهة أخرى، فيما يصر الحراك على حكومة تكنوقراط حيادية غير حزبية، ويرفض أي عودة لرموز السلطة الحالية ووجوهها، وبالتالي أيضا الحريري. ويتمسك حزب الله بالحريري، لأنه أولا بات يرتاح لأدائه، وثانيا لأنه الأقوى والأكثر تمثيلا للطائفة السنية، وثالثا لأنه يراهن على إيجاد ربما تباعد أو سوء تفاهم بين الحريري والإدارة الأميركية، ورابعا لأنه يعتقد أن هناك أصابع أميركية وراء ثورة الشارع، عندما اتهم نصرالله صراحة سفارات وجهات خارجية بالوقوف خلف الحراك وتموله. غير أن تصميم الشارع وتماسكه واستمراريته لم يتأثر بضغوط حزب الله وتهديداته، لا بل دفعه إلى إعادة تصويب خطابه، كما فعل نصرالله في ظهور إعلامي له.
مشكلة حزب الله أنه ليس "الحشد الشعبي" في العراق الذي يشكل الذراع المسلحة للحكومة، أي سلطة القرار (الشيعية) أو المتماهية معها، والتي تتحرّك أو تنفذ ما يقرّره قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. وإنما أمام منظومة سلطة لبنانية مركبة ومعقدة يتداخل فيها السياسي بالطائفي والمذهبي، وحسابات القوى السياسية المتعدّدة والقائمة على الزبائنية، وعلى المغانم والصفقات والحصص، ما يحول هذه السلطة إلى ما يشبه الشركة المساهمة. وقد بات حزب الله جزءا منها عبر ما يجنيه من عائدات وحصص من المرافق العامة، مثل مرفأ بيروت والمطار والمعابر الحدودية البرية الشرعية وغير الشرعية. وبات حزب الله جزءا من التركيبة، وهو لذلك يقف اليوم كما فعل نصرالله في ثاني خطابٍ ألقاه بعد انفجار الانتفاضة، مدافعا عن 
السلطة والنظام القائم، وبالتالي مدافعا عن منظومة وشبكة المصالح التي يجسدها التحالف السلطوي الثلاثي التي كان حزب الله مهندسه الأساسي، والذي أدى إلى إيصال عون إلى رئاسة الجمهورية بعد فراغ رئاسي دام سنتين ونصف السنة، وعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة.
وقد أثبتت تجربتا حكومتي الحريري الأولى والثانية (التي استقالت قبل شهر) وجود انسجام واسع بين الطرفين في سياسات ومشاريع ومجالات مختلفة كثيرة، والأهم غض نظر رئيس الحكومة في ما يتعلق بسلاح حزب الله ودوره في سورية الذي كرر الحريري أكثر من مرة أن معالجته هي مسألة إقليمية وليست داخلية! يبدو حزب الله اليوم في نظر كثيرين أنه بات جزءا من منظومة السلطة، بتركيبتها الحالية وبتحالفه الوطيد مع رئيس الجمهورية وتياره، التي أصبحت عمليا في خدمة سياسته ومشاريعه، بدليل أن أحدا من القوى السياسية قاطبة لم يعد يتكلم عن الدويلة والسلاح خارج السلطة الشرعية. وقد جسد هذا الواقع المعادلة السلطوية التي ترسخت أخيرا، والتي تقوم على تغاضي حزب الله عن استشراء ظاهرة الفساد مقابل سكوت الشركاء عن لا شرعية سلاحه. والآن إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري ونصرالله وعون على عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، مقابل سعي الأخير إلى تحسين شروط العودة بإبعاد الحزبيين النافرين عن الحكومة، وفي مقدمهم باسيل الذي باتت صورته مشوهة في الشارع وحضوره السياسي غير مقبول، لا أميركيا ولا عربيا، إلى درجة أنه بات يشكل إحراجا لحزب الله نفسه، ناهيك عن انعدام الكيمياء بينه وبين رئيس المجلس.
أما التشابه والتناغم مع العراق، فهو في انتفاضة الشارع، وتحديدا في أساليب ووسائل التعبير السلمي التي يعتمدها المتظاهرون، وفي انتشار الاحتجاجات على مدى البلاد، وفي مشاركة مختلف الشرائح الاجتماعية في حركة الاعتراض. وقد تضامن شباب البلدين مع بعضهما بعضا برفع العلم اللبناني في ساحة التحرير في بغداد، والعلم العراقي في ساحة الشهداء في بيروت. وليس في كواليس السلطة التي تتشابه في حسابات أهل السلطة ومصالحهم، ولكن دهاليز وأدوات الصراع والمواجهة مختلفة، حيث يواجه العراقيون سلطة الملالي بشكل مباشر، فيما يعارض اللبنانيون سياسة ودور حزب الله الذي يجسد النفوذ الايراني.. فيما يستعد الأميركيون للعودة بقوة إلى الساحة بعدما أدركوا، بحسب مطالعة كبير دبلوماسيي واشنطن في الشرق الأوسط، جيفري فيلتمان، أمام الكونغرس، أنهم أخلوها لروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل!
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.