07 اغسطس 2024
عن صعود جيرمي كوربن ومستقبله السياسي
يمثل زعيم حزب العمال والمعارضة البريطانية، جيرمي كوربن، أحد أكثر الظواهر السياسية البريطانية الراهنة إثارة ومدعاة للتأمل، فمواقفه تمثل تحديا واضحا لسياسات داخلية وخارجية بريطانية راهنة كثيرة، نظرا إلى ميلها الواضح إلى اليسار وخروجها عن الإيديولوجيات الرأسمالية والنيوليبراية المهيمنة داخل الحزبين الرئيسيين، حيث يؤمن كوربن بالعودة إلى تأميم شركات حيوية، كبعض شركات الطاقة والمياه والسكك الحديدية، ويعادي الحروب وعسكرة السياسة الخارجية، كما ينتقد بقوة النخب السياسية والاقتصادية المسيطرة وهيمنتها.
أفكار كوربن ومواقفه جعلته يحتل المقاعد الخلفية لحزبه في مجلس العموم البريطاني أكثر من ثلاثين عاما، حيث تم انتخابه عضوا في مجلس العموم البريطاني أول مرة عام 1983. ومنذ ذلك الحين، استمر النظر إليه جزءا من أقلية صغيرة تنتمي لأقصى يسار حزب العمال الذي مال، بشكل متزايد، نحو الوسط، وربما يمين الوسط، خصوصا مع سيطرة الأفكار الرأسمالية، ثم النيوليبرالية، وصعود قيادات عمالية كتوني بلير. لذا لم يتوقع أحد فوز كوربن برئاسة حزب العمال في مايو/ أيار 2015، حتى أن النواب البريطانيين الذين وافقوا على دعم ترشيحه في الانتخابات قالوا إنهم فعلوا ذلك من باب فتح الباب أمام تمثيل جميع التوجهات الموجودة داخل الحزب. ولكن كوربن أدهش الجميع منذ ذلك الحين بفوزه في عدة انتخابات ومحطات رئيسية.
أولا: فاز بقيادة حزب العمال البريطاني في مايو/ أيار 2015 من الدورة الأولى، وبأغلبية 60% من أصوات أعضاء الحزب، وهي نسبة يعتقد أنها غير مسبوقة في تاريخ الحزب.
ثانيا: ارتبط صعوده بزيادة كبيرة في عدد أعضاء الحزب، حيث تضاعف العدد في فترة صعود كوربن من حوالي 300 ألف في 2015 إلى حوالي 550 ألف عضو حاليا. ويأتي غالبية الأعضاء الجدد من فئتين: الشباب المتعلم والطبقة الوسطى المؤمنة بأفكار كوربن الاقتصادية وبأفكاره التعددية والمتسامحة تجاه الأقليات، والفقراء الداعمين مواقف كوربن الاقتصادية الرافضة هيمنة النخب الحاكمة والأثرياء والمطالبة بإعادة توزيع الثروة. وجدير بالذكر أن كوربن لم يفز برئاسة حزبه بسبب دعم الأعضاء الجدد فقط، وإنما أيضا بأغلبية أصوات أعضاء الحزب القدامى.
ثالثا: لم تقتصر إنجازات كوربن الانتخابية على الفوز برئاسة حزبه فقط، ففي انتخابات مجلس
العموم أخيرا (2017)، فاز حزب العمال بحوالي 40% من أصوات الناخبين، مقارنة بنسبة 30.5% حصل عليها حزب العمال في انتخابات عام 2015، كما زاد الحزب عدد مقاعده في مجلس العموم بثلاثين مقعدا.
ومع ذلك، لم تشفع الإنجازات السابقة لكوربن لدى كثير من وسائل الإعلام ودوائر السياسة البريطانية، والتي ظلت تنظر إليه متشدّدا أو ماركسيا أو يساريا متطرفا وخطرا على الأمن والاقتصاد البريطانيين. هذا بالإضافة إلى اتهامه بالعداء للسامية. ويرى هؤلاء أن كوربن جزء من أقلية ماركسية أو يسارية متشدّدة داخل حزب العمال، تريد العودة إلى تأميم المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ورفع الضرائب على الأثرياء واستهدافهم، ما سيؤدي إلى هروب رؤوس الأموال الدولية من بريطانيا. هذا بالإضافة إلى تهديد رؤاه الخارجية أمن بريطانيا وتحالفاتها الخارجية، مثل معارضته العمليات العسكرية التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولمشاركة بريطانيا في حربي العراق وأفغانستان، وكذلك موقفه الناقد لإسرائيل والمناصر للقضية الفلسطينية، إلى درجة اتهامه بالعداء للسامية وحماية المعادين للسامية داخل حزبه.
كما يرون أن أفكار كوربن تسرّبت لبرنامج حزب العمال، والذي بات يعبّر عن توجه يساري جديد ومقلق، فالبرنامج المنشور تحت عنوان "للأكثرية وليس للأقلية" يطالب برفع الضرائب على أصحاب الدخول التي تفوق 80 ألف جنيه إسترليني سنويا، وبالتأميم التدريجي للشركات المسؤولة عن إمداد البريطانيين بالطاقة والمياه وشركات السكك الحديدية، وبالتوسع في بناء المساكن للفقراء، وبزيادة تمثيل العمال في مجالس إدارة الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. كما يعد بتمرير قوانين تفرض موافقة البرلمان، قبل خوض أي حروبٍ خارجية، وبالتحقيق في ميراث بريطانيا الاستعماري وتبعاته، وبزيادة المساعدات الخارجية، وبوقف صادرات الأسلحة البريطانية لدول، كإسرائيل والسعودية، إذا ثبت استخدامها في انتهاكات لحقوق الإنسان.
في المقابل، يرى أنصار كوربن أن الأصوات الناقدة له تتغافل حقيقتين. أولاهما أن كوربن ليس شخصية استبدادية أو متسلطة يفرض رؤاه على حزبه، ويقمع الأصوات المعارضة له. ويرى هؤلاء أنه التزم دائما بالحوار داخل حزبه، وأنه غيّر بعض مواقفه تماشيا مع رأي الأغلبية. ولعل المثال الأبرز على ذلك موقفه من قضية انسحاب بلاده من الاتحاد الأوروبي، حيث عرف كوربن بمعارضته الاتحاد، بسبب سيطرة التوجهات الرأسمالية على سياساته. ولكنه التزم بموقف الحزب الرافض للخروج من الاتحاد في استفتاء 2016. ويدعم كوربن وحزب العمال حاليا موقفا وسطا، يتلخص في طرح اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي على استفتاء ثانٍ قبل تمريرها. وهذا يعني أن مواقف كوربن الشخصية ليست سيفا مسلطا على حزب العمال. كما أن إدارته الحزب تبدو أكثر ديمقراطية مقارنة بإدارة بوريس جونسون حزب المحافظين، حيث طرد الأخير 20 عضوا من حزبه، بسبب معارضتهم سياسته تجاه القضية نفسها. في حين خاض كوربن انتخابات إضافية في سبتمبر/ أيلول 2016 لتبرير قيادته الحزب، بعد أن انقلب معظم أعضاء حزبه في البرلمان ضده، وفاز بها مرة أخرى بأغلبية كبيرة (62%).
الحقيقة الثانية، كما يراها أنصار كوربن، هي أن صعوده السياسي يعبر عن حراكٍ جديدٍ داخل
المجتمع البريطاني، حيث ارتبط بزيادة عدد أعضاء حزب العمال البريطاني من ناحية، وبتصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى. صعود كوربن منذ 2015 ارتبط بصعود رفض البريطانيين سياسات التقشف، وتفاقم شعورهم بغياب العدالة الاقتصادية وبانفصال النخب السياسية عن الجماهير. وهي الأسباب التي أدّت إلى تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي ودعمهم صعود أصواتٍ يمينيةٍ متشدّدة، مثل حزب الاستقلال ثم حزب البريكست، ورئيس الوزراء البريطاني الحالي (بوريس جونسون). هذا يعني أن صعود كوربن يمثل استجابة طبيعية للظروف التي يمر بها المجتمع البريطاني، ولكنها استجابة يسارية، تفتقر إلى المواقف اليمينية المشغولة بالعداء مع المهاجرين والأقليات عن قضايا إعادة توزيع السلطة والثورة.
كوربن، الذي قضى معظم حياته السياسية وسط الحركات العمالية والجماهيرية، يبدو أكثر مصداقية من جونسون وحزب المحافظين في الاستجابة لمطالب الفقراء والمهمّشين، وأكثر استعدادا لتبني سياساتٍ اقتصاديةٍ تهدف لإعادة توزيع السلطة والثروة، ولكنها سياسات لا تساير الغضب اليميني تجاه الأقليات والمهاجرين من ناحية، وتمثل تحديا واضحا للنخب الاقتصادية والسياسية المهيمنة من ناحية أخرى. وهو ما يفسر ردود أفعالها القوية ضده.
هذا لا يعني أن نجاح كوربن مضمون أو أنه بلا تحديات. حيث يتبقى أمام كوربن ثلاثة تحديات رئيسية. أولها صعوبة فوزه في الانتخابات البرلمانية المقبلة (12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي)، حيث تشير استطلاعات الرأي المختلفة إلى تقدم المحافظين بحوالي 10% من أصوات الناخبين. ثانيا: المعارضة التي يلقاها كوربن داخل حزبه واليسار البريطاني، بسبب رفض عديدين من نخب حزبه البرلمانية له وخسارة حزبه دعم بعض اليساريين الرافضين الخروج من الاتحاد الأوروبي. ثالثا: صعوبة تطبيق رؤى كوربن المغايرة للسياسات البريطانية السائدة في حالة وصوله إلى الحكم، نظرا إلى ما تمثله من انقطاع واضح لتلك السياسات. وفي النهاية، يبقى صعود كوربن ظاهرة مثيرة تستحق التأمل والتحليل، لما تمثله من تحدٍّ جاد للوضع البريطاني القائم.
أولا: فاز بقيادة حزب العمال البريطاني في مايو/ أيار 2015 من الدورة الأولى، وبأغلبية 60% من أصوات أعضاء الحزب، وهي نسبة يعتقد أنها غير مسبوقة في تاريخ الحزب.
ثانيا: ارتبط صعوده بزيادة كبيرة في عدد أعضاء الحزب، حيث تضاعف العدد في فترة صعود كوربن من حوالي 300 ألف في 2015 إلى حوالي 550 ألف عضو حاليا. ويأتي غالبية الأعضاء الجدد من فئتين: الشباب المتعلم والطبقة الوسطى المؤمنة بأفكار كوربن الاقتصادية وبأفكاره التعددية والمتسامحة تجاه الأقليات، والفقراء الداعمين مواقف كوربن الاقتصادية الرافضة هيمنة النخب الحاكمة والأثرياء والمطالبة بإعادة توزيع الثروة. وجدير بالذكر أن كوربن لم يفز برئاسة حزبه بسبب دعم الأعضاء الجدد فقط، وإنما أيضا بأغلبية أصوات أعضاء الحزب القدامى.
ثالثا: لم تقتصر إنجازات كوربن الانتخابية على الفوز برئاسة حزبه فقط، ففي انتخابات مجلس
ومع ذلك، لم تشفع الإنجازات السابقة لكوربن لدى كثير من وسائل الإعلام ودوائر السياسة البريطانية، والتي ظلت تنظر إليه متشدّدا أو ماركسيا أو يساريا متطرفا وخطرا على الأمن والاقتصاد البريطانيين. هذا بالإضافة إلى اتهامه بالعداء للسامية. ويرى هؤلاء أن كوربن جزء من أقلية ماركسية أو يسارية متشدّدة داخل حزب العمال، تريد العودة إلى تأميم المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ورفع الضرائب على الأثرياء واستهدافهم، ما سيؤدي إلى هروب رؤوس الأموال الدولية من بريطانيا. هذا بالإضافة إلى تهديد رؤاه الخارجية أمن بريطانيا وتحالفاتها الخارجية، مثل معارضته العمليات العسكرية التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولمشاركة بريطانيا في حربي العراق وأفغانستان، وكذلك موقفه الناقد لإسرائيل والمناصر للقضية الفلسطينية، إلى درجة اتهامه بالعداء للسامية وحماية المعادين للسامية داخل حزبه.
كما يرون أن أفكار كوربن تسرّبت لبرنامج حزب العمال، والذي بات يعبّر عن توجه يساري جديد ومقلق، فالبرنامج المنشور تحت عنوان "للأكثرية وليس للأقلية" يطالب برفع الضرائب على أصحاب الدخول التي تفوق 80 ألف جنيه إسترليني سنويا، وبالتأميم التدريجي للشركات المسؤولة عن إمداد البريطانيين بالطاقة والمياه وشركات السكك الحديدية، وبالتوسع في بناء المساكن للفقراء، وبزيادة تمثيل العمال في مجالس إدارة الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. كما يعد بتمرير قوانين تفرض موافقة البرلمان، قبل خوض أي حروبٍ خارجية، وبالتحقيق في ميراث بريطانيا الاستعماري وتبعاته، وبزيادة المساعدات الخارجية، وبوقف صادرات الأسلحة البريطانية لدول، كإسرائيل والسعودية، إذا ثبت استخدامها في انتهاكات لحقوق الإنسان.
في المقابل، يرى أنصار كوربن أن الأصوات الناقدة له تتغافل حقيقتين. أولاهما أن كوربن ليس شخصية استبدادية أو متسلطة يفرض رؤاه على حزبه، ويقمع الأصوات المعارضة له. ويرى هؤلاء أنه التزم دائما بالحوار داخل حزبه، وأنه غيّر بعض مواقفه تماشيا مع رأي الأغلبية. ولعل المثال الأبرز على ذلك موقفه من قضية انسحاب بلاده من الاتحاد الأوروبي، حيث عرف كوربن بمعارضته الاتحاد، بسبب سيطرة التوجهات الرأسمالية على سياساته. ولكنه التزم بموقف الحزب الرافض للخروج من الاتحاد في استفتاء 2016. ويدعم كوربن وحزب العمال حاليا موقفا وسطا، يتلخص في طرح اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي على استفتاء ثانٍ قبل تمريرها. وهذا يعني أن مواقف كوربن الشخصية ليست سيفا مسلطا على حزب العمال. كما أن إدارته الحزب تبدو أكثر ديمقراطية مقارنة بإدارة بوريس جونسون حزب المحافظين، حيث طرد الأخير 20 عضوا من حزبه، بسبب معارضتهم سياسته تجاه القضية نفسها. في حين خاض كوربن انتخابات إضافية في سبتمبر/ أيلول 2016 لتبرير قيادته الحزب، بعد أن انقلب معظم أعضاء حزبه في البرلمان ضده، وفاز بها مرة أخرى بأغلبية كبيرة (62%).
الحقيقة الثانية، كما يراها أنصار كوربن، هي أن صعوده السياسي يعبر عن حراكٍ جديدٍ داخل
كوربن، الذي قضى معظم حياته السياسية وسط الحركات العمالية والجماهيرية، يبدو أكثر مصداقية من جونسون وحزب المحافظين في الاستجابة لمطالب الفقراء والمهمّشين، وأكثر استعدادا لتبني سياساتٍ اقتصاديةٍ تهدف لإعادة توزيع السلطة والثروة، ولكنها سياسات لا تساير الغضب اليميني تجاه الأقليات والمهاجرين من ناحية، وتمثل تحديا واضحا للنخب الاقتصادية والسياسية المهيمنة من ناحية أخرى. وهو ما يفسر ردود أفعالها القوية ضده.
هذا لا يعني أن نجاح كوربن مضمون أو أنه بلا تحديات. حيث يتبقى أمام كوربن ثلاثة تحديات رئيسية. أولها صعوبة فوزه في الانتخابات البرلمانية المقبلة (12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي)، حيث تشير استطلاعات الرأي المختلفة إلى تقدم المحافظين بحوالي 10% من أصوات الناخبين. ثانيا: المعارضة التي يلقاها كوربن داخل حزبه واليسار البريطاني، بسبب رفض عديدين من نخب حزبه البرلمانية له وخسارة حزبه دعم بعض اليساريين الرافضين الخروج من الاتحاد الأوروبي. ثالثا: صعوبة تطبيق رؤى كوربن المغايرة للسياسات البريطانية السائدة في حالة وصوله إلى الحكم، نظرا إلى ما تمثله من انقطاع واضح لتلك السياسات. وفي النهاية، يبقى صعود كوربن ظاهرة مثيرة تستحق التأمل والتحليل، لما تمثله من تحدٍّ جاد للوضع البريطاني القائم.