18 سبتمبر 2024
.. عن العبودية الجديدة
قتلت فكرة تشبّه المغلوب وإعجابه بالغالب ومحاكاته سلوكيا بحثا وتأصيلاً منذ أشار إليها ابن خلدون. ولكن، ماذا عن ظاهرة "تضامن" النخبوي المعارض مع الديكتاتور غير المتنور والفاسد عند تعرضه للأذى، أو حتى إمكانية تعرضه لها، وهي ظاهرة مركبة، تختلف عن الظاهرة النفسية المعروفة بمتلازمة استوكهولم.
للعبودية في المجال العام تمظهرات عدة، أوضحها العبودية المباشرة التي تعبر عن نفسها بدون وسائط أو انتظار فرص سانحة، وينقسم أتباع هذا "المذهب" في العبودية إلى كتلتين رئيسيتين: العبد المتظلل بالديكتاتور والمندمج في نظامه وخطابه بوضوح، وقد كرّس مجاز "البوق" في وصفه في المجال العام. والعبد الذي يقول إنه معارض للتسلط والشمولية، لكنه سيختارهما إذا خيّر بين ديمقراطي وشمولي، لأن حاجته للشعور بالأمان السلبي، والذي يوفره الشمولي، تفوق نسبة استبطانه شجاعة الإرادة ومسؤولية الحرية. وتشكل الكتلتان ما يمكن تسميتها الصورة الكلاسيكية للعبد في الفضاء العام، ولكن تمظهر العبودية الأشد تركيبا عند النخبة الثقافية والسياسية المعارضة هو العبودية التي تغطي على مركب المازوخية فيها، وهذه مركب رئيس في كل أشكال العبودية، بأسطورة التفوق الأخلاقي. وهنا، تكسر العبودية الكلاسيكية، ويتفتق عنها العبد الجديد.
لا يتوق العبد الجديد لأن يكون مثل الشمولي الفاسد بالضرورة، بل إلى أن يكونا في صف واحد، وأفضل مدخل لتحقيق هذه الأمنية مواجهة خطر "مشترك" بخلفية أخلاقية، تشوش على مضامين العبودية في السلوك بعد ذلك، وتقنعه بأنه ليس عبداً. وهنا، يكون مكمن الخداع وقدرة العبد الجديد على التمويه.
يشعر العبد الجديد هنا "بالندية"، وهي كاذبة على كل حال، لأنه يؤكد، بهوس مازوخي متلذذ، على أنهما، المعارض السياسي "العبد الجديد" والحاكم المجرم الفاسد، أصبحا في صف واحد مع تكرار عبارة "رغم الاختلاف". وطبعاً، يؤكد على الدوام أن هذا الحلف نتيجة حكم أخلاقي صرف. وتتخلل هذا التأكيد مواعظ وخطب أخلاقية، لا تعطي إشارة للمستمع الفاحص إلا إلى مركبات نقص راسخة عند قائلها، وحالة الحركة الحوثية مع الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، حالياً، والمبالغة في تأكيد متحدثي الحركة على تحالفهم معه، بعد فترة من عدم الاعتراف به، مثال نموذجي في هذا السياق.
يظهر تهافت هذا التفوق الأخلاقي الموهوم في فكرتين. الأولى، أن هذا "الأخلاقي العظيم" يمارس الخصومة السياسية في أقبح تجلياتها مع "الند" الفعلي له، ومن المفيد هنا الاطلاع على مقال عزمي بشارة حول سايكولوجية العبودية، فقد حلل هذا الجانب جيداً، حيث يغيب، حينذاك، النسق الأخلاقي برمته، حتى الأخلاق الأولية غير المركبة، فيتبنى هذا المعارض النخبوي خطاباً فاشستياً عنصرياً تجاه خصومه السياسيين العاديين ومنافسيه الأنداد، حيث يبدأ بالتحقير ويمر بالتحريض على انتهاك الكرامة الشخصية وإهدار الآدمية، وينتهي بالدعوة إلى إزهاق الأرواح وسفك الدماء! وهنا ندرك أن لبوس الأخلاق، في الحالة الأولى، ليس إلا وسيلة تمويه وتشويش على مركبات النقص، وهذا العبد نفسه هو الذي يقول، بنبرة أخلاقية مضحكة، إن علي صالح "مواطن" يمني يستحق التضامن.
الفكرة الثانية، أن التنظير للأخلاق في الفكر العربي، بعد إجلاء الاستعمار وبناء الدولة، كان مشوهاً. وهنا، نتحدث بتعميم له استثناءات، تكريس مفهوم العمل السياسي نشاطاً أخلاقياً، ولم تكرس مفاهيم العدالة بتجلياتها الحديثة، والتفريق بين القصاص والانتقام، والتأكيد على أن المواطنة اصطناع تنجزه الدولة، وليس معطى طبيعياً، وأن لهذا البناء شروطا، بحيث يكون التضامن مع القاتل والمجرم ليس تجلياً للأخلاق، وأن ازدراء المواطن المتسلط واحتقاره ليس عيباً ونقصا، بل علامة سوية أخلاقية.
من هذا الخلل، تشكل جزئياً العبد المازوخي الجديد الذي يقول إن كره المظلوم الظالم/ وكره المواطن المتسلط غير المتنور تصرف غير لطيف، بينما التودد له والخوف عليه من "تهديد" بأذى علامة تفوق أخلاقي! وإن جرائم تاريخية، مثل تدمير السايكولوجيا الجمعية لشعب، وعرقلة مسار التطور المجتمعي عقوداً، يمكن أن يكون موقف المواطن من مقترفها مختزلاً بمجرد "اختلاف" يمكن تجاوزه، وبناء تحالف مع المجرم التاريخي أو التضامن معه... "رغم الاختلاف" طبعاً، مشوهاً بذلك النسق الأخلاقي في الثقافة الشعبية، المتآكل أصلاً، بفعل التوجهات الاقتصادية الفاسدة والسياسات القمعية للنظام السياسي المتراكمة تاريخياً، ومشوشاً على الحكم الأخلاقي السليم.