عن الشكّ وحالاته

07 سبتمبر 2020

(بهرام حاجو)

+ الخط -

نطلق على الشخص الذي لا يثق بأحد، وينظر إلى الآخرين بعين الريبة، صفة الشكّاك، وهي مفردة أقرب إلى الشتيمة، لأننا نقصد إدانته بأكثر العيوب التي قد تصم أحدا ما، إذ نعتبر هذه الصفة السلبية قبيحة ومنفرة ومثيرة للغضب، كون عنوان علاقة هذا النموذج المرهق بالآخرين هي افتراض سوء النية في كل الأحوال والمقامات. يظل مثل هذا الشخص عاجزا عن منح الثقة للمحيطين من أفراد عائلة وزملاء عمل وأصدقاء وشركاء عاطفيين، غير مطمئن لهم على الدوام، مهما أبدوا نحوه من مشاعر الحب والاكتراث، فيخسر كل من حوله تباعا، يبتعدون عنه قدر الإمكان، حتى لو كان من الدائرة القريبة، لأن التعامل معه ليس أمرا سهلا، فهو يتطلب إنكارا للذات، وقدرة غير اعتيادية على التحمّل والتفهم. يضعك الإنسان الشكّاك دائما في دائرة الاتهام، ويدفعك إلى مواقف دفاعية، ويزجّك في منطقة التبرير من دون مبرّرات حقيقية، وغالبا ما تنهار علاقاتٌ أساسية متينة، بسبب وقوع أحد أطرافها فريسة الشك المضني الذي يقتات على أعصاب صاحبه، فيحطّمها، ويدفعه إلى تصرّفات عدوانية، لعله غير مسؤول عنها بالمطلق.
والواقع أن هذا النموذج الشقي بذاته يثير الرثاء، ويستدعي الشفقة، بسسب مقدار البؤس والكآبة والطاقة السلبية المنبعثة منه، والتي تجعل التعامل معه عبئا نفسيا ثقيلا. تكمن المشكلة في هذه الحالات بعدم اعتراف الشكّاك بأن ما يعانيه مرض نفسي، يتطلب الخضوع لرحلة علاج طويلة وإعادة تأهيل وتقويم مسلكي من خلال مراجعةٍ موضوعيةٍ للذات، والغوص عميقا في الروح. عودة إلى مرحلة الطفولة للوقوف على أسباب فقدان الإحساس بالأمان، والخوف الدائم من الناس، واعتبارهم أعداء، لا يجوز الاطمئنان إلى نياتهم، وضرورة أخذ الحيطة والحذر منهم. يمكن القول إن تأثير الأهل، وخصوصا الأم، كبير على تنشئة الطفل، وتحديد ملامح شخصيته في السنوات الست الأولى، وهي السنوات الحاسمة، والتي تقرّر مسار حياته إلى الأبد، فإذا لم يعزّز بمشاعر الثقة بالنفس وبالآخرين في مرحلة مبكرة، فإن ذلك يجعله متردّدا مرتابا فاشلا في بناء حياته على أسس سوية، يرفض الاعتراف بجدّية هذا المرض، بل يكابر، ولا يعترف بفشله الإنساني والمهني، وتتعاظم في رأسه الأوهام عن الشر المنبعث من الآخرين، ويدّعي أن العزلة التي يعيشها قرار، وليس مصيرا، متجاهلا، عن سبق إصرار وعناد، أن الشك مرض نفسي خطير، يعتبره بعض علماء النفس الاسم المخفف لمرض الوسواس القهري، وهو حالة نفسية مركبة، تؤدّي إلى أفكار وهواجس سوداوية، ليست أكثر من أوهام في رأس المريض، تحيل حياته إلى جحيم دائم.
وهناك نوع مختلف من الشك، وهو حالة إيجابية مرافقة للبشرية، ذلك الشك الخلاق الضروري للتقدّم في كل مناحي الحياة، لا بد منه خطوة أولى في طريق الوسواس القهري، يسلكها أشخاص أذكياء بالعادة يصنعون التاريخ، وتبقى أسماؤهم على مر الأزمان علامات إنسانية فارقة، لا يركنون بسهولة إلى المسلّمات، بل يعملون بجرأة، يدفعون حياتهم أحيانا ثمنا لها على التشكيك بمصداقية تلك المسلمات، يهزّون أساسها غير المتين من خلال البحث والتقصّي والتأمل وطرح الأسئلة الصعبة الممنوعة التي تراهن على تفوق العقل البشري، وقدرته على إحداث اختلافٍ نوعي، لا يمكن له أن يحدث لولا القدرة على ارتكاب الشكّ المحفز.
ليكن الله في عون من ابتلي بداء الشك المدمّر، فظل أسيرا لظلمات نفسه المرتابة، وطوبى لأولئك الذين استثمروا فضيلة الشك، من أجل النهوض بالبشرية إلى مزيد من الابتكار والإبداع في آفاق أكثر اتساعا ورحابة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.