عن الدعوة إلى عودة المُستعمر

09 اغسطس 2020
الانفجار خلّف خسائر مادية وجروحاً نفسية (حسين بيضون)
+ الخط -

قيل إن عريضة وقّع عليها لبنانيون، تضم نحو أربعين ألف توقيع، تدعو إلى عودة فرنسا، المستعمر القديم، إلى لبنان، لإدارة شؤون "الدولة الفاشلة"، على هامش كارثة المرفأ التي دمرت جزءاً من بيروت، وخلّفت خسائر مادية وبشرية كبيرة، والأكثر من ذلك جروحاً نفسية، وإحساساً بعدم الانتماء، وصحوة من أكذوبة دولة قادرة على تسيير أمور مواطنيها، وقت الأزمات، وفي الأزمنة العادية.
ليس مهماً أن تكون العريضة حقيقية أو مجرد مزايدات سياسية لجهات تريد أن تلهي المواطن اللبناني عن المشكلة الأم، تجد صداها في خروج المتظاهرين إلى الشارع، مباشرة قبل التئام الجراح، للمطالبة بسقوط رموز الحكم في نظام المحاصصة السياسية والحشد الطائفي.
ولكن الأهم، أن دلالاتها المباشرة والعميقة تنسحب خارج لبنان البلد والدولة والشعب، لتطاول أغلب البلدان العربية، التي عانت فيها الشعوب من الحروب الطائفية ومن الفساد الممنهج وقمع الحريات والحجر على الإرادة الشعبية وتزوير الاستحقاقات الشعبية وبلقنة الخرائط السياسية وصنع أحزاب الدقيقة الأخيرة في مقرات وزارات الداخلية، وتحول وزارات الإعلام إلى أقبية مخابرات، والدفع بتجار الأزمات إلى الواجهات، وإثقال الاقتصادات بالديون ورهنها لإرادة الخارج للعقود المقبلة.
كل هذا وغيره كثير، من قتل للتعليم وإضعاف للمؤسسات المنتخبة وتصفية لقطاعات استراتيجية مثل الصحة والعدل، يجعل المواطن العربي في أكثر من بلد عربي، يتمنى رغبة أو قهراً عودة المستعمر القديم لإدارة الشؤون، فعلى الأقل ترك هذا المستعمر الطرق والمستشفيات والمدارس، وكان الناس يجدون الخبز، حتى وإن لم يجدوا الكرامة.
الدعوة إلى عودة المستعمر، إعلان صريح لفشل دولة الاستقلال. لقد سمعنا مواطنين عراقيين في السابق، وبوجوه مكشوفة أمام الكاميرات، يتمنون عودة المحتل الأميركي، لأن دولة ما بعد صدام حسين لم تقدم لهم غير جهنم الطائفية، وفي مصر وسورية واليمن وبلدان المغرب العربي، كثيراً ما نسمع هذه الدعوة الكافرة بمن يسيّر الأوطان، بعد أن بارت الشعارات التي رفعتها الدولة الوطنية، واستولت الفئات الحاكمة على مقدرات الأوطان والشعوب، وتحولت إلى ضيع خاصة ومعتقلات وفبركة تهم مصنوعة لمن يتجرأ على المطالبة بالحقوق.
لن تنجح بطبيعة الحال أي دعوة إلى المطالبة بعودة المستعمر، لا لأنها دعوة حمقاء وحاطة من الكرامة، ولكن من يقبل اليوم، من دول الاستعمار القديم والجديد، أن يشتري بضاعة كاسدة لا أمل في إصلاحها أو التربّح منها؟ بلدان دون موارد، أو بموارد في طريقها إلى النضوب، وشعوب تحظى بأقل فرص في التعليم، ونخبة متعبة، قمّتها تجري في دمائها جينات الفساد والنهب.
من يقبل من بين هؤلاء أن يأتي "ليسيّرنا"، سواء أكان ماكرون أم جونسون أم ترامب أم بوتين أم غيرهم من باعة الديمقراطية المزيفة؟ وماذا بقي لدينا لأن ندفعه لهم مقابل هذا القدوم؟