21 يونيو 2020
عن الحرب والشتات
في مثل هذا اليوم كنت خارج اليمن في رحلة امتدت من أسبوع إلى تغريبة وشتات لزمن غير معلوم. لم أفرح ليوم واحد بما حدث ولا أشعر بأننا مدينين للتحالف بأي شكر..
لطالما ساهمت السعودية في تدمير اليمن، بدءا بدعمها الملكيين ضد الجمهوريين في ستينيات القرن الماضي، وما حدث أنها خافت من عنجهية الحوثيين الذين كانت هي والمجتمع الدولي داعمين لهم في حربهم التي بدأت من صعدة حتى تخوم صنعاء.
عندما تأكدنا من أن الحوثي دخل صنعاء محتلا شعرت بغصة يومها وقلت لرفيقي، سافر أنت، أنا لن أترك بلدي للمحتل، شعرت يومها بالمهانة فكيف أترك وطني الذي لا أملك أي انتماء آخر إلا له، وأنا التي تبحث عن الحقيقة في كل شيء ولا أيقن إلا حقيقة جذوري الممتدة لمئات السنين لهذه الأرض ولهذا الوطن!
كيف أتركه لمن أتى من ظلام الكهوف ويريد أن يعيدنا إلى ما قبل التاريخ، ما قبل العلم، ما قبل المعرفة، قبل كل شيء أؤمن به إلى كل شيء لا أؤمن به! كيف أترك وطني لمغتصب لم يشعر بيوم بالانتماء أو الامتنان لأرض أتى إليها هاربا ذليلا فأعزته وأنعمت عليه وظل مصرا أن يذكرها بعرقه ونسبه الذي لا يعنينا في شيء ولا يلزمنا بشيء إلا برفضه ونبذه!
قال لي صديق وأنا في القاهرة قبل ثلاثة أعوام ستعودين قريبا يا سبأ، لا تقلقي لن يطول الأمر، فأجبته بلى سيطول وأنت تعلم أن الأسوأ لم يحدث بعد. لا يهتم سلمان باليمن ولا يعرف كم مساحتها التي اغتصبت عائلته أجزاء منها ولا يعلم عدد سكانها ولا يهتم إن كانت دولتنا ملكية أو جمهورية سنية أو شيعية، ما دامت الولاءات كلها له وما دام الحاكم مستعدا للمثول تحت قدميه وأخذ عمالة خيانة الوطن كما كان يفعل عفاش وثلة المشايخ المحسوبين على اليمن.
سيدمرون السلاح وكل ما يجدونه في طريقهم، حتى الإنسان الذي قال شكرا سلمان، لن يسمعوه ولن يهتموا له، كل ما يهمهم هو أمنهم العام، ملكيتهم الخاصة، أن لا يتمدد هذا السرطان الخبيث الذي أصابنا فيصل إليهم. أخبرته لو كان لهم دور سابق في نهضة اليمن لسجدت شكرا للإله الذي يدعون أنه اصطفاهم وقلت شكرا إلهي، شكرا سلمان، ستعود بلادي وسأعود إليها أو أهاجر منها وهي حرة طليقة، لكن ذلك لن يحدث، وقد حدث بالفعل!
سافرت من القاهرة بعد أكثر من شهرين إلى رفيقي، وكنت ممتنة للقدر الذي لم يقبل أن نفترق لوقت أطول، وقررت في لحظة نرجسية أنه لا بد لنا من صنع عائلة كبيرة لنا ونحن في الغربة، وفي الوقت ذاته كنت أريد أن أسعد أمي بأي خبر حتى لو كان على حساب نفسي، لذلك قررت أن أحضر للعالم طفلا آخر! وفي اليوم ذاته الذي علمت فيه بأنني حامل كنت مع بعض الصديقات في المساء عندما وصلنا خبر تحرير عدن! لن أنسى تلك الفرحة ما حييت، شاركت يومها بصفحتي أغنية عدن عدن، بصوت المغني اليهودي زيون، ثم قمنا للرقص على الأغاني اللحجية واليهودية حتى منتصف الليل.
قالت إحدى الصديقات مازحة "اتماسين رمضان قومين صلين بدل الرقص"، وسحبناها معنا وقلنا لها اليوم هذه تراويحنا، يجب أن نحتفل، وانضم الجميع إلينا. وكنت على عكس ما ترى صديقتي، كنت أصلي وأصلي وأنا أسعى من طرف لآخر في محاولاتي لمجاراة الرقصة اللحجية، أصلي كما صلت هاجر وأدعو أن تتفجر بئر النصر في صنعاء. لكنها لم تنتصر حتى اللحظة.
عدت لليمن بعد أكثر من عام وبضعة أشهر، عدت بعد إنجابي لإلياس الذي حملت به بعيدا عن أمي وأنجبته بعيدا عنها أيضا؛ ودخلت في موجة اكتئاب حاد جعلني أقرر العودة بعد أربعين يوما فقط من الإنجاب. وصلت إلى مطار صنعاء بعد رحلة شاقة من بلد لبلد ومن مطار لمطار، واستقبلني شقيقي الأصغر ضمن خطة لمفاجأة الأسرة بعودتي، وكنت أرى اليمن وكأنني أتعرف عليها للوهلة الأولى وفي الوقت نفسه كنت أشعر بأنها كما تركتها لم يتغير فيها شيء!
عدت لليمن ووالداي في القرية، التي لا تبعد عن المدينة سوى دقائق معدودة، ولم أكن أفهم سر رفضهم للعودة إلى المدينة إلا عندما عدت. في رمضان ذهبت لأول مرة إلى صنعاء المدينة، إن جاز لي وصفها بمدينة، ورأيت أفواج المسلحين يجوبون السوق، يجمعون كسوة الشهداء وعيديتهم من أصحاب المحلات، مشرف يدعي الهندمة وغلمان تحملهم البنادق يقفون خلفه، وأمامهم في كل مرة ضحية يهددونه بإقفال المحل إن لم يدفع! كل الشوارع كانت متسخة بهم، كل الشوارع تلوثت بهم، حتى وجدتني ولأول مرة أنقم على صنعاء، كيف لها ألا تنشق وتبتلعهم!
عدت إلى القرية، حدثت صديقي، هل تعلم ربما كنت محقا، كان يجب على التحالف أن يضرب كل زاوية وكل شبر أن لا يبقي ولا يذر، كيف للناس أن تسكت على هذا المحتل المختل أن يحكمهم ويذلهم! يرسل أبناءهم للموت، يصعد هو وسلالته عاليا، يبنون القصور ويحصلون على آخر موديلات السيارات بينما يهوي البقية في هاوية الجحيم! حتى أولئك الذين صمدوا معهم وأولئك الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم رخيصة من أجل فكرة بائسة تقول إن هناك حيوانا منويا اصطفاه الإله لا يكون الحكم إلا له، حتى أولئك لم يسلموا وقد رأيت بعيني معاناة كثيرين منهم ورأيتهم وهم ينحدرون للهاوية وعيونهم تنظر لأبناء السلالة في القصور المشيدة وهم يتقهقرون دون حتى طلب النجدة وكأنهم قبلوا بالهاوية علها تغفر جرم ما ارتكبوه في حق وطنهم!
لم تمض سوى أيام من ذلك الاعتراف البائس اليائس حتى قصف التحالف القاعة الكبرى. اتصل بي رفيقي ليطمئن علينا ولم نكن نعلم بعد أنه تم قصفها، ولم أكن أعلم أن والدي ذهب إليها لتقديم العزاء! قفزت أمي فجأة عندما سمعتني أقول قصفوا القاعة! لم أرها في تلك الحالة من قبل، كانت كالممسوسة تظهر ثم تختفي أو كنت أنا قد بدأت أفقد الوعي عندما تأكدت أن أبي هناك. كنت أحاول طمأنتها وأنا بحاجة إلى من يساعدني لأستفيق، وكنت أقسم لها بأنه بخير، شيء ما كان يجعلني أكيدة أنه بخير، وبعد محاولات عديدة للاتصال به، أجاب: أنا بخير الحمد لله. لم نكن نعلم بعد حجم الكارثة، توالت الاتصالات بعدها، الكل يسأل، الكل يريد أن يطمئن، أخي الأصغر يتصل بي بصوت مضطرب "سبأ دريتي أنهم ضربوا القاعة!"، "أبي هناك" أجبته: لا. أحتاج لأن أستذكر ما حدث وكم فقدنا من أصدقاء وأقارب لا علاقة لهم بهذه الحرب الملعونة أبدا، بل بالعكس كانوا ضد الحوثي قلبا وقالبا، ومع ذلك ماتوا بنيران مفترض أنها صديقة.
ثلاثة أسابيع بعد الحادثة، تأكدت فيها أن والدي قادر على أن يتعافى من جروحه ولو ظاهريا، وحملت حقائبي وقررت الرحيل دون عودة، سافرت مع أطفالي من صنعاء إلى سيئون، لمدة يوم كامل، مررنا بالعديد من النقاط، أولها كانت نقاط المحتلين، كانوا بسطاء ساذجين طيبين مبردقين مغيبين وكنا راحلين، ثم انتقلنا إلى نقاط الشرعية كانوا ملثمين، أشعروني بالهزيمة، بالضعف، بالخوف، كانوا بتلك الهيئة يخبرون العالم عبرنا أنهم لا يأمنون الحوثيين على أهاليهم ولا يثقون في حكومة المنفى أن تحميهم.
ثلاثة أعوام من الشتات، سافرت خلالها إلى عدة بلدان عبر ثلاث قارات، وعرفت معنى الغربة والشتات وأن تكون بلا وطن، بلا ظهر تستند إليه، وحتى اللحظة لم ولن أشكر التحالف ولو بشكل صوري، وممتلئة بالكراهية على تحالف الشر الذي ينخر البلاد من الداخل أكثر، فلولاهم ما هُنّا على العالم ولما ضاقت الأرض بما رحبت بهذا اليمني الذي لا يعرف العالم من قصته إلا أن ترامب وضع بلده في قائمة المنع أو أنه جنوب جارة السوء.