منشار الذاكرة!

21 أكتوبر 2018
+ الخط -
لا شيء يشبه اليمني العائد من بلاد الحرمين إلى بلاد الحربين، يعود محملاً بالخذلان لوطن بذل حياته في خدمته وتنكر له في آخر حياته ولفظه إلى شاطئ الموت في وطن غادره ذات فقر وعاد إليه في زمن الكوليرا والحرب.

لا شيء يشبهه وهو مثقل بالهموم والديون والكثير من الأسئلة الوجودية التي لا يعلم كيف وجدت طريقها إلى رأسه الذي لم يفكر من قبل سوى بالمصاريف والحوالات والكفيل.

ها هو يتخبط اليوم في قوقعة على هيئة جمجمة ويحاول إنقاذ نفسه بضرب رأسه في زجاج نافذة سيارة النقل التي تسوقه وعائلته إلى حتف غير معلوم، يصيح سائق السيارة بغضب طالبا منه التوقف حتى لا يتشقق زجاج النافذة، لكن اليمني العالق في جمجمته لا يتجاوب معه.

يلعن يمني آخر الساعة التي غادر فيها اليمن بحثاً عن الرزق في بلد طردت والده من قبله في حرب الخليج، يلعن الغباء الذي قاده لذات مصير والده، بل أشنع منه بما يفوق الخيال.


الرزق على الله تتمتم إحدى العجائز و"عز القبيلي بلاده يا عيالي"، فيخرج العالق في جمجمة أحدهم ويصيح "أين الله الذي تتحدثين عنه وقد تركنا لهذا البلاء عشرات السنين ويقودنا اليوم للموت وهم يغترفون الأموال من باطن الأرض ويقسمونها على من يبيعهم ما يبيدوننا به؟ أين الله يا حجة وأنت مطرودة من أرضه وبيته؟ وأي عز في بلد تنهشه الحرب من الداخل والخارج؟" "اتق الله يا ابني"، ترد العجوز بشيء من قلة الحيلة والكثير من الدموع "أنت لا تعلم حكمة الله، ولا بد من خير يسوقه الله لنا من هذا العذاب".

لا شيء يشبه اليمني وسيارة النقل تحمل عشرات الشباب في عز الشتاء تنقلهم عبر الحدود كبضاعة ردّت لأهلها وهم بأرواب قصيرة لا تكاد تستر عوراتهم ويتلقفهم من الطرف الآخر رجال الكهف الذين يستبيحون ما تبقى من كرامتهم ويشحنونهم لجبهات القتال ليعودوا لذويهم في جنائز فارغة من جثثهم التي لا يبالي أنصار الشيطان بانتشالها من ميدان المعركة فهم مجرد خونة أعادتهم المهلكة.

لا شيء يشبه اليمني وهو قابع في زنزانته وحيداً لا يعلم عنه العالم شيئاً. يذوق ويلات العذاب صباحاً ومساءً، لكن ما من صحيفة تفتقده ولا خطيبة تتصل بجهات أمنية واستخباراتية من أجله، لا يهم إن كان حياً أو ميتاً، فكونه يمنياً يعفي الحقوقيون والصحافة والعالم أجمع من ملاحقة مصيره.

لا شيء يشبه اليمني وهو يحاول أن يهرب من كل هذا البلاء فتتلقفه "طائرة مارقة" تقصف حافلة ممتلئة بالأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة وتترك وفوداً عسكرية تناور في الجوار، لا شيء يشبهه وهو ينزح من قرية لقرية ومن بيت لملجأ فتتلقفه غارة جوية "خاطئة".

اليمني الذي لا يشبهه شيء سوى معاناته يتفوق مع ذلك على ذاته وتسمعه يصرخ مع كل مبتلى ومع كل معذب، حتى لو كانوا أولئك الذين تسببوا يوماً ما بأذيته. يُشعرك بالغضب عندما تتيقن من قدرته على العفو والنسيان وتتمنى لو يخلق الله منشاراً تقطع به ذاكرته لتضعها أمامه كي لا ينسى حتى وإن فضل العفو.
50228739-0847-4184-9784-6EA5B34CBE16
سبأ حمزة

أم لثلاثة أشقياء ونجمة.. الكتابة ابنتي الوحيدة بين ثلاثة صبيان، يحبونها ويغارون منها.. كاتبة وأكاديمية من اليمن. درست الأدب الإنجليزي بجامعة العلوم والتكنلوجيا، وأدرس حاليا في جامعة أوترخت.

مدونات أخرى