31 أكتوبر 2024
عن الانسحاب الروسي ودلالته
أثار قرار روسيا سحب القسم الأكبر من معداتها العسكرية من سورية خيبةً كثيرة على ضفة الموالين للنظام السوري، مقابل ارتياح كثيرين على ضفة المعارضين له، حتى أن أحد المعارضين المخضرمين عبّر عن فرحته بالقول "إن هذا الخبر يعادل لدي خبر سقوط النظام". الواقع أن ثمة مبالغة في المشاعر هنا وهناك، وأن الخطوة الروسية هذه لا تحمل بعداً سياسياً يتجاوز ما كان قد صرّح به المسؤولون الروس قبل التدخل أو بعده.
حين تدخل الروس في سورية تدخلاً عسكرياً مباشراً في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، قالوا إن مهمتهم لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وقالوا قبلها وخلالها إنهم لا يدافعون عن شخص، وإنهم لم يأتوا لكي يساعدوا النظام في الحسم التام ضد معارضيه، وهذا ما جعل الروس يحتجون على تصريحات الأسد الذي ذهب إلى القول إنه لن يتوقف حتى استعادة كامل سورية. منذ البداية، كان الفارق واضحاً بين ما يريده الروس وما يريده النظام السوري. وظهر هذا الفارق جلياً للإعلام في اللغة الحادة التي استخدمها المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، تعقيباً على تصريحات الأسد تلك: "عليه أن يلتزم الخط الروسي"، مضيفاً بما ينطوي على تحذير "إذا ما اتبعت السلطات السورية خطى روسيا لحل الأزمة، فلديهم فرصة للخروج منها مع حفظ كرامتهم". جاء ذلك بعد أيام من تصريح لرئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيدف، يقول فيه إن روسيا دخلت إلى سورية "من أجل هدف محدد وملموس هو التوصل إلى اتفاق".
من البديهي أن التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية لم يكن لضروراتٍ سورية، بل لضرورات روسية أساساً. لم تكن حاجة النظام السوري إلى روسيا هو ما جلب تدخلها، بل حاجة روسيا إلى النظام منصة يطل منها الروس إلى سورية المقبلة. ويدرك الروس، بلا شك، أن سورية المستقبل لن تكون سورية الأسد بأي حال. وهذا بالضبط ما أحدث التباين بين الفهمين، الروسي والسوري، وما جعل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يقول إن "الأسد يغرد خارج السرب"، أي إنه لا يدرك حقيقة الأمر.
ظن مسؤولو النظام السوري الذين يقرّ في وعيهم أن النظام هو بشار الأسد، وأن بشار الأسد
هو النظام، أن روسيا قادمة لإنقاذ الأخير من السقوط، المهمة التي يدرك الروس جيداً أنها مستحيلة، كما أدركوا جيداً استحالة استعادة "رئيسهم" في أوكرانيا. بين إنقاذ النظام السوري، ممثلاً ببشار الأسد، وإنقاذ موقع روسيا وتعزيزه في سورية وفي العالم، يكمن الفارق الذي لم يرغب رئيس الدبلوماسية السورية، وليد المعلم، في رؤيته، فأطلق تصريحه الطفولي: "بشار الأسد خط أحمر"، والذي أثار جون كيري فقال إنه "يعرقل المفاوضات"، واعتبره وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرو، "استفزازياً"، وقد يكون هو ما دفع بوتين إلى إعلان خطوته الانسحابية بهذا الشكل، لإعادة المعلم ومعلميه إلى أرض الواقع بواسطة العلاج بالصدمة. وربما كان إسقاط طائرة الميغ 21 السورية بمنظومة دفاع جوي محمولة على الكتف في 13 مارس/آذار الجاري إشارةً، في هذا الاتجاه، للنظام ولحلفائه. وكان لافتاً نفي المعارضة السورية إسقاط الطائرة بصاروخ، مؤكدة إسقاطها بالمدفعية، وذلك، فيما يبدو، لعدم عرقلة المفاوضات في اتهاماتٍ بشأن الدول التي زودت المعارضة بالسلاح الجوي.
تكثر التكهنات في تفسير سبب الخطوة الروسية، بين كونها تحت ضغط أميركي أو تحت ضغط اقتصادي، أو تعبيراً عن صفقةٍ ما، أو عن صراعات داخل الكرملين ..إلخ، غير أن الخطوة الروسية تبدو منسجمة مع المهمة العسكرية الروسية، كما ارتسمت منذ البداية، فالروس تدخلوا لتحسين موازين القوى، بما يخدم تحقيق تسويةٍ، تحافظ في النظام على الجزء الصلب الذي تقف عليه المصالح الروسية. ولا تفسير للطريقة الصادمة سوى أنها محاولة صب الماء البارد على رؤوس ممثلي النظام الحامية، قبيل جولة التفاوض. وربما جاء هذا "التبريد" تحت ضغط أميركي بعد أقوى تصريح يصدر عن كيري، قبيل لقاء المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مع وفد النظام السوري في جنيف، وينطوي على نفاد الصبر من مناورات النظام السوري، وتهرّبه الدائم من تقديم تنازلاتٍ فعلية، حيث هدّد كيري النظام وحلفاءه: "إذا اعتقد النظام وحلفاؤه أنهم قادرون على اختبار صبرنا أو التصرف بطريقةٍ لا تحترم تعهداتهم (...) فإنهم واهمون".
حقق التدخل الروسي الغرض الأساسي منه، ويجب الآن تكثيف دور روسيا في الوساطة للتوصل إلى اتفاق سلام في سورية، كما جاء في كلام بوتين. يمكن أن يُفهم من هذا أن ما حققه الروس، عسكرياً ودبلوماسياً، يقع في مكان أدنى من استمرار الأسد، وأعلى من سقوط النظام، ويتكثف هذا في آليةٍ معينةٍ للحفاظ على استمرار مؤسستي الجيش والأمن، بإدخال تعديلاتٍ في التركيبة لن تكون جوهرية، مع المرونة في المستوى السياسي، وصولاً إلى رحيل الأسد. وهذا يشكل، كما يبدو، النواة الصلبة للاتفاق الروسي الأميركي حيال التسوية السورية.
كان نجاح الهدنة التي بدأت في 27 فبراير/ شباط مؤشراً على مدى تبعية "الداخل" إلى "الخارج"، وعلى أن التسوية باتت قريبةً، لأن "الخارج" توصل إلى اتفاق بشأن "الداخل". وإذا نجح هذا الخارج في فرض الهدنة، فإنه يقف، اليوم، أمام اختبار قدرته على فرض التسوية. والحق أن الانسحاب الروسي (الجزئي بطبيعة الحال) هو أهم مقومات نجاح التسوية، لأنه يفرض على النظام وممثليه أن يروا ذاتهم، وأن يدركوا مرغمين أن "ما لا يدرك كله، لا يترك جله".
ويبقى السؤال المهم: هل سيدرك النظام السوري معنى الخطوة الروسية وحقيقة التفاهم الدولي الخاص بسورية، أم سيتعامى مجدداً، ويلجأ إلى خلط الأوراق والمناورة، ليضيف جرائم جديدة إلى جرائمه السابقة؟
حين تدخل الروس في سورية تدخلاً عسكرياً مباشراً في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، قالوا إن مهمتهم لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وقالوا قبلها وخلالها إنهم لا يدافعون عن شخص، وإنهم لم يأتوا لكي يساعدوا النظام في الحسم التام ضد معارضيه، وهذا ما جعل الروس يحتجون على تصريحات الأسد الذي ذهب إلى القول إنه لن يتوقف حتى استعادة كامل سورية. منذ البداية، كان الفارق واضحاً بين ما يريده الروس وما يريده النظام السوري. وظهر هذا الفارق جلياً للإعلام في اللغة الحادة التي استخدمها المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، تعقيباً على تصريحات الأسد تلك: "عليه أن يلتزم الخط الروسي"، مضيفاً بما ينطوي على تحذير "إذا ما اتبعت السلطات السورية خطى روسيا لحل الأزمة، فلديهم فرصة للخروج منها مع حفظ كرامتهم". جاء ذلك بعد أيام من تصريح لرئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيدف، يقول فيه إن روسيا دخلت إلى سورية "من أجل هدف محدد وملموس هو التوصل إلى اتفاق".
من البديهي أن التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية لم يكن لضروراتٍ سورية، بل لضرورات روسية أساساً. لم تكن حاجة النظام السوري إلى روسيا هو ما جلب تدخلها، بل حاجة روسيا إلى النظام منصة يطل منها الروس إلى سورية المقبلة. ويدرك الروس، بلا شك، أن سورية المستقبل لن تكون سورية الأسد بأي حال. وهذا بالضبط ما أحدث التباين بين الفهمين، الروسي والسوري، وما جعل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يقول إن "الأسد يغرد خارج السرب"، أي إنه لا يدرك حقيقة الأمر.
ظن مسؤولو النظام السوري الذين يقرّ في وعيهم أن النظام هو بشار الأسد، وأن بشار الأسد
تكثر التكهنات في تفسير سبب الخطوة الروسية، بين كونها تحت ضغط أميركي أو تحت ضغط اقتصادي، أو تعبيراً عن صفقةٍ ما، أو عن صراعات داخل الكرملين ..إلخ، غير أن الخطوة الروسية تبدو منسجمة مع المهمة العسكرية الروسية، كما ارتسمت منذ البداية، فالروس تدخلوا لتحسين موازين القوى، بما يخدم تحقيق تسويةٍ، تحافظ في النظام على الجزء الصلب الذي تقف عليه المصالح الروسية. ولا تفسير للطريقة الصادمة سوى أنها محاولة صب الماء البارد على رؤوس ممثلي النظام الحامية، قبيل جولة التفاوض. وربما جاء هذا "التبريد" تحت ضغط أميركي بعد أقوى تصريح يصدر عن كيري، قبيل لقاء المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مع وفد النظام السوري في جنيف، وينطوي على نفاد الصبر من مناورات النظام السوري، وتهرّبه الدائم من تقديم تنازلاتٍ فعلية، حيث هدّد كيري النظام وحلفاءه: "إذا اعتقد النظام وحلفاؤه أنهم قادرون على اختبار صبرنا أو التصرف بطريقةٍ لا تحترم تعهداتهم (...) فإنهم واهمون".
حقق التدخل الروسي الغرض الأساسي منه، ويجب الآن تكثيف دور روسيا في الوساطة للتوصل إلى اتفاق سلام في سورية، كما جاء في كلام بوتين. يمكن أن يُفهم من هذا أن ما حققه الروس، عسكرياً ودبلوماسياً، يقع في مكان أدنى من استمرار الأسد، وأعلى من سقوط النظام، ويتكثف هذا في آليةٍ معينةٍ للحفاظ على استمرار مؤسستي الجيش والأمن، بإدخال تعديلاتٍ في التركيبة لن تكون جوهرية، مع المرونة في المستوى السياسي، وصولاً إلى رحيل الأسد. وهذا يشكل، كما يبدو، النواة الصلبة للاتفاق الروسي الأميركي حيال التسوية السورية.
كان نجاح الهدنة التي بدأت في 27 فبراير/ شباط مؤشراً على مدى تبعية "الداخل" إلى "الخارج"، وعلى أن التسوية باتت قريبةً، لأن "الخارج" توصل إلى اتفاق بشأن "الداخل". وإذا نجح هذا الخارج في فرض الهدنة، فإنه يقف، اليوم، أمام اختبار قدرته على فرض التسوية. والحق أن الانسحاب الروسي (الجزئي بطبيعة الحال) هو أهم مقومات نجاح التسوية، لأنه يفرض على النظام وممثليه أن يروا ذاتهم، وأن يدركوا مرغمين أن "ما لا يدرك كله، لا يترك جله".
ويبقى السؤال المهم: هل سيدرك النظام السوري معنى الخطوة الروسية وحقيقة التفاهم الدولي الخاص بسورية، أم سيتعامى مجدداً، ويلجأ إلى خلط الأوراق والمناورة، ليضيف جرائم جديدة إلى جرائمه السابقة؟