عن الاقتصاد السياسي لما يحدث في مصر
بمعنى آخر، يعتمد النظام الحاكم، في أي دولة، على ماكينة سياسية معينة، على قواعد معينة للعبة السياسية، صنعها خلال عقود، ولن نستطيع أن نفهم مواقف الجماعات السياسية المختلفة، ونقدها بشكل جاد من دون فهم الظروف التي تعمل فيها، وقيود ماكينة النظام. وكنت قد تناولت، في مقال سابق في "العربي الجديد"، دراستين حديثتين، حاولتا فهم ماكينة النظام السياسي في مصر. الأولى لأستاذ ألماني في الجامعة الأميركية في القاهرة، هو هولجر ألبرخت، ويرى فيها أن النظام المصري حرص على ألا تعمل المعارضة مع الناس، واحتفظ بأقصى عقاب سياسي وقضائي للجماعات التي ترفض اللعب ضمن قواعده، وتحاول العمل مع الناس مباشرة في الشارع، وفي مقدمتها "الإخوان"، ثم حركة كفاية. وترى أن من فرط تعوّدها على قواعد العمل داخل النظام، باتت جماعات المعارضة المصرية تجد صعوبة في التعامل مع الجماهير الجديدة عليها. واستمر هذا الخوف، حتى بعد ثورة يناير، الكل خاف تقريباً وتردّد في التعامل مع الجماهير الغفيرة التي دخلت مجال الاهتمام بالسياسة بعد الثورة للمرة الأولى.
كانت الدراسة الثانية للمصري طارق مسعود، من جامعة هارفرد، وترى أن سر عبقرية "الإخوان" في مصر أنهم ركزوا على الطبقة الوسطى في قياداتهم وأتباعهم، لأن الطبقة الفقيرة، الأكثر تضرراً من سياسات النظام، مسحوقة، والطبقة الثرية محجوزة لأتباع النظام والمنتفعين منه. ولذلك، لجأ "الإخوان" إلى البحث عن مناصرين أوفياء وسط الطبقة الوسطى، لعلّهم يتمكنون من مواجهة ماكينة النظام الاستبدادية القائمة على شراء أصوات الناخبين.
بمعنى آخر، يرى مسعود أن النظام جعل من العمل المباشر مع الفقراء شرطاً مستحيلاً للبقاء السياسي، جعله عملاً شاقاً مكلفاً وبلا عائد، فلجأت جماعات المعارضة الجادة، وفي مقدمتها "الإخوان"، للحشد في أوساط الطبقة الوسطى بالأساس، هروباً من قيود النظام. بمعنى ثالث، لكي تعمل في السياسة في مصر، عليك أن تعتمد على كوادر من الطبقة الوسطى، كما يقول طارق مسعود، مؤمنة بالتغيير ومصرّة على الوصول إلى الفقراء في الشارع المصري، على الرغم من العقوبات الهائلة التي يفرضها النظام، كما يرى هولجر ألبرخت.
موضوع هذه السطور دراسة ثالثة، صدرت في عام 2013، للأستاذ الجامعي في بريطانيا، روبرتو روكو، عنوانها: "الاقتصاد السياسي للثورة المصرية"، وهي مفيدة في فهم ماكينة النظام المصري السياسية، أو تقديم تصوّر أكثر شمولية لآلة الاستبداد السياسي في مصر، وتركّز على علاقة الاقتصاد بالسياسة والثروة بالسلطة. وينطلق روكو في فهمه النظام السياسي المصري، من مفهوم الهيمنة والسيطرة، فهو يرى أن النظام مشغول ببقائه وبقدرته على السيطرة على الشعب سيطرة سياسية تتطلّب سيطرة اقتصادية، سيطرة يمكن أن تغيّر ثيابها الأيديولوجية، وترتدي عباءة يسارية أو ليبرالية أو ليبرالية جديدة، لكنها حريصة على التحكّم في تدفّق السلطة والثروة للشعب.
في عهد جمال عبد الناصر، سيطرت الدولة، وقيادات الجيش خصوصاً، على مقاليد السياسة والاقتصاد، فكانت شركات القطاع العام التي وظّفت قطاعات واسعة من المصريين، حتى بات تعيين الخريجين الجدد في مؤسسات الدولة بقانون يفرض ذلك، ولكن عبد الناصر فشل في تطوير أداء شركات القطاع العام وقدرتها على التصدير، وواجهته صعاب خارجية. ولذلك، اضطر أنور السادات للانفتاح الاقتصادي، والتوجه للقطاع الخاص، لعلّه يتمكن من التصدير وسد العجز المتزايد في موازنة الدولة. ومع حرصه على السيطرة، ظهرت في مصر طبقة رأسمالية جديدة، خارج القطاع العام، قريبة من الحاكم، تدين له بالولاء، ولم تتمكن من زيادة الصادرات، ولا من تطوير الإنتاج. واستمر مبارك على المنوال نفسه، سيطرة سياسية واقتصادية بإثراء فئة قليلة، تدين له بالولاء، وكان أكثر خوفاً من قادة الجيش، وتهميشاً سياسياً لهم، على عكس السادات الذي أقنع نخبة الانفتاح بأن الجيش أخوهم الأكبر، كما يقول المؤلف. أما مبارك، فأراد عزل الجيش عن السياسة، واكتفى بدور اقتصادي للجيش، من خلال شركات اقتصادية للمؤسسة العسكرية ولقادتهم بعد التقاعد.
استمرت الأوضاع على ما هي عليه حتى أوائل التسعينيات وأزمة النظام الاقتصادية، حيث بدأت المؤسسات الدولية والمانحون الضغط لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والتحلّي بمسحة ليبرالية، تقوم على تحرير العملة والتجارة والخصخصة. ويقول روبرتو روكو إن الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية كانت تأمل أنه، مع الانفتاح الاقتصادي، سوف يحدث انفتاح سياسي، فمع خصخصة الاقتصاد، سوف تنتشر الثروة وسط فئات أوسع، ومن ثم تتوزع السلطة السياسية.
في مقابل ذلك، اتخذت السياسات الليبرالية الجديدة في مصر مساراً بطيئاً للغاية، امتد حتى عام 2004، وهو مسار بطيء للغاية، قائم على تأجيل التعديلات الاقتصادية وتعطيلها وإبطائها، بهدف عدم خروجها عن السيطرة، ولكي تتدفق الثروة الجديدة إلى فئات صغيرة للغاية، يحددها النظام، وتعمل تحت طاعته.
ويقول روكو إن الصعود السياسي لجمال مبارك وسيناريو توريثه الحكم، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ارتبط بتسريع وتيرة السياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وقد حشد جمال مبارك حوله مجموعة من الحرس الجديد الذين تبنوا تلك السياسات، وأسرعوا فيها بمعدلات هائلة، خصوصاً مع حكومة أحمد نظيف، فقد سيطرت مجموعة جمال مبارك على المناصب الاقتصادية الرئيسية في الوزارة وعلى البرلمان وعلى الثروة، حتى سيطرت سبع عائلات مصرية فقط، بحلول عام 2010، على نصف 30 أكبر شركة مدرجة في البورصة المصرية. وسيطر رجال الأعمال على البرلمان، ولم يعد في مصر حديث سياسي واقتصادي سوى عن أفكار الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى الخصخصة وتحرير التجارة والعملة والتركيز على النمو الاقتصادي وانتظار تساقط فوائد النمو والثروة الجديدة على الناس.
لم يكن النظام شفافاً، وكانت الثروة تذهب إلى المقرّبين من النظام، وتتراكم في أياديهم، وقواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية ظلّت كما هي، قائمة على الهيمنة والعلاقات الشخصية وإثراء المقربين والتحكّم في تساقط الثروة والسلطة إلى الفئات الغريبة عن تلك النخبة الصغيرة للغاية.
في المقابل، لم يكن طريق جمال مبارك مفروشاً بالورود، لسببين، أولهما أن الأقلية الحاكمة لم تكن متجانسة، فقادة الجيش شعروا بالتهميش، وشعر قادة البيروقراطية بأن نخبة الليبراليين الجدد "طمّاعة"، سيطرت على السياسة والاقتصاد بشكل مبالغ فيه. ولذلك، لم يتردد قادة الجيش كثيراً في إلقاء أحمد عز ورفاقه في السجون بعد ثورة يناير. السبب الثاني أن الدولة، منذ عبد الناصر، عوّدت الشعب على شراء رضاه بالمال، ما يعني أن الشعب تخلّى عن دوره السياسي لقاء أن توفّر له الدولة الوظائف والخدمات والدعم. وبمرور الوقت، قلّت قدرة الدولة على شراء رضى المواطنين، وكنزت نخبة جمال مبارك الثروة بشكل مبالغ فيه، ونسيت، مؤقتاً، توزيع بعض عوائدها على الفقراء الذين ازدادوا فقراً، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية الدولية (2008) وتراجع السياحة والاستثمارات الدولية.
لذلك، لم يشعر المصريون بالتعاطف مع الليبراليين الجدد وسياساتهم في مصر، كما تعاطفوا مثلاً مع عبد الناصر ونخبته وسياساته التي اشترت رضاهم بسياساتٍ، مثل القطاع العام والدعم والتوظيف وتوزيع بعض الأراضي على صغار المزارعين. لذلك، خرج الناس في 25 يناير، ودعمهم قادة الجيش الناقمون على جمال مبارك ورفاقه. وهنا، يذهب الباحث إلى أن الأحداث في مصر لم تنتهِ بالانقلاب العسكري على حكم أول رئيس منتخب في 3 يوليو/ تموز 2013، لأن مشكلة الجيش الرئيسية أنه يسيطر على نظام فاقد للشرعية القائمة بالأساس على شراء رضى المواطنين.
وقد فقد النظام في مصر، منذ فترة، وبشكل متزايد، القدرة على شراء طاعة المواطنين. وصعود الجيش، الذي لم يثق في رجال أعمال حسني مبارك، أو في "الإخوان المسلمين" والشباب، لا يعني نهاية مشكلة الشرعية، فالناس ستبحث، بعد فترة، عن ثمن لرضاها. فهل سيغيّر الجيش من سياسات الهيمنة الاقتصادية، القائمة على إثراء مجموعات صغيرة مقرّبة من الحاكم، عسكرية أو رأسمالية أو ليبرالية جديدة، في جوٍ تغلب عليه المحسوبية وعدم الشفافية والفساد، أم أنه سيعكس تلك السياسات، ويميل إلى سياسات اقتصادية شفّافة، تؤدي إلى تسرّب الثروة ثم السلطة إلى الشعب؟
في الوقت الراهن، تبقى قواعد اللعبة السياسية في مصر كما هي: فقراء يبحثون عمّن يشتري رضاهم، وقوى سياسية عاجزة عن الوصول إليهم، بسبب تقويض النظام قواها المنتمية للطبقة الوسطى باستمرار، وسلطة وثروة مركّزتان في فئة محدودة. ويكمن التحدي في أن النظام كلّه بات فاقداً لشرعيته، لأنه لم يعد قادراً على شراء رضى الناخبين، وعليه البحث عن صيغة جديدة لتركّز الثروة والسلطة في يديه، تسمح بتسرّب بعض الثروة، على الأقل، للمصريين. فمن الواضح أن النظام لا يبدو معنيّاً بالديمقراطية، على المدى القريب، بحسب عبد الفتاح السيسي، في أكثر من مقابلة معه، حيث قال إن الوصول إليها قد يحتاج ربع قرن.