عن إعلام السامسونغ في مصر

26 يونيو 2019
+ الخط -
كرّس المجتمع الدولي لقبا رسميا للرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، هو "الرئيس الأول والوحيد المنتخب ديمقراطيا" في دولة الدولة العميقة، في إنجاز لا يمكن لعبد الفتاح السيسي وسوابقه أن يحلموا به. منح المجتمع الدولي، نخبُه وإعلامُه، اللقب للرئيس الذي حظي بمعاملة خاصة في سجنه الانفرادي، لتسهيل موته البطيء، والذي تحقق أخيرا كما خطط له. في الإعلام المصري، ليس الرئيس السابق الذي تصدّر خبر موته هاشتاغات تويتر في المنطقة إلا المواطن المجهول محمد مرسي العياط الذي لا يستأهل خبر وفاته سوى بضعة أسطر عمّمتها أجهزة المخابرات على الإعلام، وتلقاها بعضهم عبر جهاز سامسونغ الذي بات مصدرا إخباريا. 
في كل "حدثٍ" جديدٍ يقدّمه الإعلام المصري، نقول وصلنا إلى أسفل الهاوية، حتى يفاجئنا "حدثٌ" جديدٌ ينسينا سابقه، ويحفر قاع الهاوية أعمق في "مهنيّة" هذا الإعلام المفقودة. قرأت مقدمة الأخبار في شبكة سي بي أس، التابعة للنظام، كما معظم الإعلام المتبقي في الساحة، الكلمات المعدّة التي أرسلتها أجهزة الأمن إلى الإعلام عن وفاة الرئيس السابق. فاقت "أمانة" مقدّمة نشرة الأخبار زملاءها في المهنة، إذ ارتأت أن تقرأ مع الخبر مصدره، أي جهاز السامسونغ الذي أرسلت منه التعليمات، كما باتت التقاليد في العمل الصحافي في مصر 
السيسي. لم تبدِ القارئة أي مفاجأة، بل بدا لها عاديا جدا أن تذيّل الخبر بالإشارة إلى مصدره الحقيقي. كما لم يبدُ غريبا لها ولزملائها أن يُنشر الخبر في الصفحات الداخلية للصحف وهوامش النشرات الإخبارية على أنه ثانوي ليس ذا أهمية. في الإعلام الحديث، نشط الشامتون و"الوطنجيون" في تسفيه المتعاطفين مع مرسي، في ظروف موته الطويل والرهيب، ضحية سوء معاملة وإهمال طبي متعمّد. كأن يعلق أحدهم أن مرسي لم يكن سوى فاصلة في تاريخ مصر (فاصلة قصيرة إنما مختلفة في تاريخ الدولة العميقة)، أو أن تستغرب إحداهن أن يثير خبر وفاة مرسي كل هذه "العواطف"، معتبرة أن الاستياء العام من وفاة رئيسٍ منتخبٍ في ظروفٍ أشبه بالقتل المتعمّد مجرد عواطف غير عقلانية، إن لم يكن جزءا من المؤامرة الدولية ضد مصر.
ثم لماذا التحرّي عن ظروف وفاة مرسي، ومثله آلاف السجناء والمختفين قسريا كل يوم، أو الذين يُرسلون إلى المشانق، والقاضي كله ثقةٌ أنهم مظلومون، طالما أن الإعلام الغربي "المتآمر" يحقّق في الانتهاكات غير المسبوقة لنظام السيسي، وينشر التحقيق تلو الآخر عن القمع الممنهج للخصوم من إسلاميين وغيرهم، والسجون التي تحولت مقابر بشرية؟ حظي موت مرسي بالاهتمام الإعلامي العالمي، في حين يموت كل يوم عشراتٌ غيره في صمت سجون السيسي، أو يقدّمون جثثا موثوقة الأيدي، يقول النظام إنهم قتلوا في اشتباكاتٍ مع قوى الأمن، أو يختفون من دون أي معلومةٍ عن مصيرهم. ماذا يحدث في سجون الموت البطيء في مصر السيسي لا يستأهل اهتمام الإعلام المصري، مادام مادة دسمة للإعلام الغربي وهيئات حقوق الإنسان؟ كشفت "الإندبندنت" البريطانية أن محمد مرسي تُرك مرميا على الأرض عشرين دقيقة داخل قفص المحاكمة، قبل أن يفارق الحياة، وأهمل الحرّاس صراخ رفاقه لإنقاذه، واعتمدت الصحيفة في خبرها هذا على إفادات شهودٍ حضروا الجلسة. وخصصت صحيفة الغارديان البريطانية مقالها الافتتاحي لظروف موت مرسي، واعتبرت أن الأخطر أن موته كان مرتقبا ومعلوما مسبقا، نظرا إلى الظروف المريعة لاحتجازه، إذ حُرم من الرعاية الصحية الضرورية لمرض السكري، ما أدى إلى اصابته بكوما مؤقتة، فيما يوازي التعذيب، بحسب تقرير النائب كريسين بلانت، الذي شارك في تحقيقٍ حول ظروف احتجاز الرئيس السابق بطلبٍ من عائلته.
بعد سيطرة المؤسسة العسكرية على أجهزة الإعلام في البلاد، باتت مساحة التعبير ليس فقط الناقد، إنما المختلف عن الرواية الرسمية، شبه مستحيلة فثمنها فائق الكلفة. هل يستأهل أي 
تقرير صحافي، على أهميته، الموت البطيء في سجون التعذيب والإهمال الطبي؟ بلغ قمع الأصوات المختلفة مرحلة جديدة، مع وضع وسائط الإعلام الحديث تحت سيطرة المجلس الأعلى للإعلام، عبر استهداف الأصوات المؤثرة، بقرار إقفال حسابات "تويتر" أو المدونات التي يزيد عدد متابعيها على خمسة آلاف متابع. شكرا للرئيس دونالد ترامب، لمنحه أجهزة القمع في العالم فرصة إغلاق نافذة الهواء المتبقية في الإعلام الحديث، للتعبير عن الرواية المختلفة، بحجة محاربة الأخبار الزائفة. على الرغم من ذلك، يصعب تصوّر أن آلاف العاملين في قطاع الإعلام أسكتهم الخوف عن التمرّد على حالة الانحدار المريع التي حوّلتهم إلى مجرد إعلام سامسونغ. الأصوات المستقلة صمتت، أو لجأت إلى مجالاتٍ أخرى، مثل التدريب المهني والتدريس الجامعي لمن وجد فرصة لذلك، في انتظار تغيير ما. قلة قليلة، أبرزها موقع "مدى مصر"، اختار الاستمرار، حتى الآن، باللحم الحي. أما الغالبية العظمى فلم تجد صعوبة في التأقلم مع الوضع، بحجة "الظروف الخاصة" للبلاد. لم تشكل الفاصلة القصيرة للانفتاح الإعلامي ما بعد ثورة يناير مساحةً كافيةً لتطوير تقاليد إنتاج جديدة في الإعلام، أو تغيير فعلي في الكوادر الصحافية. العودة إلى عادات الطاعة في نشر ما تمليه أجهزة السامسونغ السيادية ليست أمرا مفاجئا، بل تكريس عادات متجذّرة باتت تعتبر طبيعية. أما الأصوات الصامتة، على قلتها، في هذه المهزلة، فإن صمتها مدوٍّ ويستحق كل الاحترام.
لم يكن السيسي يتوقع أن ينغّص عليه محمد مرسي نجاحاته العالمية، بأن يمنح المجتمع الدولي مرسي فخر الشرعية الانتخابية، بعدما انتزعها الجنرال بقوة الترهيب وسفك الدماء. أما جورج أورويل فلن يتسنّى له أن يعرف أن النظام المصري استعار أهم شخصياته، الأخ الأكبر، ليطوّر نظام رقابة أكثر فاعلية وابتكارا قد يصبح يوما مادةً لنسخةٍ جديدةٍ للرواية الشهيرة.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.