.. عن إسقاط العزل السياسي في تونس
صادق المجلس الوطني التأسيسي التونسي، قبل أيام، وبأغلبية مريحة، على الفصل 167 من القانون الانتخابي، وهو المتعلق بالعزل السياسي الذي كان يستهدف إقصاء الذين تقلّدوا مناصب سياسية، أو حزبية، في نظام زين العابدين بن علي. مرّ التصويت، وألقى الجميع بالمقصلة التي كانت ستهوي على رؤوس النظام السابق. لم يكن سهلاً أن يمر القانون، فلقد أحيل على التصويت أكثر من مرة، لطعون وشكوك تتعلق بتفاصيل إجرائية. ظل بعض النواب ثابتاً على موقفه، مؤيداً أو رافضاً العزل، وتغيّرت بعض المواقف جزئياً، تحت تأثيرات متعددة الجهات. وهجر بعض النواب المجلس تجنباً للتصويت الذي سيحصرهم بين خيارين، لا ثالث لهما.
حدث ذلك في مناخ من التعبئة لا نظير لها خاضتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. لم يتابع الرأي العام تفاصيل القانون الذي سيكون له بصمته في المشهد السياسي التونسي، والذي ستفرزه الانتخابات، فالخريطة السياسية المقبلة لن تحدّدها موازين القوة السياسية فحسب، بل ستكون مفصّلة وفق النسيج الذي تُحاك القوانين الانتخابية به، بدءاً من شروط الترشح، وصولاً إلى طريقة الاقتراع وطرق احتساب الفائزين. وقد أغفل الناس، إلى حد كبير، مسائل المال الانتخابي والدعاية الانتخابية والتناصف، وظل الاهتمام مركّزاً ومحصوراً على الفصل المتعلق بـ"العزل السياسي".
كانت النتيجة بالنسبة لمتابعين عديدين للشأن السياسي التونسي، غير مفاجئة، فمنذ أشهر، بدأت اللعبة السياسية تُلعَب "بالمكشوف"، لا يخفي اللاعبون دوماً أوراقهم، بل يكشفونها، من حين إلى آخر، يتخيّرون اللحظة المناسبة ويشهرون ذلك. يعرف التونسيون أن اللاعبين المَهَرة في المقاهي الشعبية، حيث تزدهر حالياً لعبة الورق "الشكبة"، يجرؤون على فعل ذلك، فحين يتيقنون أن النتيجة آيلة إليهم لا محالة، أو عند الرغبة في رفع منسوب الاستفزاز والتحدّي إرباكا للخصم، يقدم هؤلاء على كشف أوراقهم، ولو لوقت وجيز. يضطر الخصم، آنذاك، إلى مجاراة النَسَق الذي يفرضه اللاعب "كاشف الأوراق" أو افتعال أي شيء للانسحاب "احتراماً لقواعد اللعبة". يحدث ذلك، لنثر مشاعر الانبهار، وتسويق صورة لن تُنسى بسرعة، في أمكنةٍ يبحث فيها الناس عن بطولات، ولو صغيرة. لا ندري، بالدقة المطلوبة، ما مشاعر هؤلاء اللاعبين، ومَن يتحلّق حولهم. ولكن، ما لا شك فيه أن الأثر الحاصل في ذلك كله، هو تحويل مناطق التشويق والإثارة خارج اللعبة. لن تكون النتيجة محل تأويل، فهي بائنة فاقدة المفاجأة، مبدّدة للتشويق. ولكن، مَن يتابع اللعبة سيطارد مغزى كل تلك التصرفات، فيذهب مذاهب شتى في تأويل ذلك: من الإفراط في الثقة في النفس إلى التصرف الأرعن وروح المجازفة إلخ... وفي كل الحالات، يدفع اللعب بالمكشوف إلى ابتذال نتيجة اللعبة الماثلة، لتحويل المتفرجين إلى مخمّنين، وطرد الفوز إلى مناطق أخرى مخبأة.
في الأشهر الأخيرة، يكشف اللاعبون السياسيون بعض أوراقهم، وهم إذ يفعلون ذلك، فلأن الجزء الأكبر من اللعبة يقع خارجها في مكان آخر، وبلاعبين آخرين. ما تؤول إليه اللعبة المكشوفة سلفاً، ليس، في النهاية، سوى تهيئة الناس للنتيجة المرتقبة، وتوجيه انتباههم إلى ملاحقة مضنية لمقاصد ذلك الكشف. وكانت النتيجة النهائية للعبة المكشوفة، منذ أشهر، ضرباً من صكوك الغفران السياسي القانوني لمسؤولي النظام السابق بلا استثناء ذي بال تقريباً.
فائض الحماسة الأخلاقية للعزل، أو الغفران، أمران فاقدان للإقناع، وستظل المشروعية مثلومة في كل من الأطروحتين، لدى قطاع واسع من النُخَب الحقوقية والسياسية، على وجه الخصوص. ومع ذلك، تظل الروحية الأخلاقية للثورة ميّالة إلى العزل، ولو إلى حين، وخصوصاً أن إسقاط مشروع العزل القانوني يأتي في ظل الحضور الإعلامي المتنامي لرموز من النظام السابق بصفاقة شديدة تجرأوا فيها، حتى على الشهداء، وبعد أقل من أسبوعين على إطلاق سراح كل رموز النظام المتورطين في القتل. كان المنتصرون للعزل السياسي ينتظرون أن يتدارك المجلس التأسيسي، ويُصلح ما فعله القضاء. ولم يكن الأمر كما اشتهوا وتداوى الأبَحُّ بالعلقم.
انصبّ الغضب على حركة النهضة، من بعض أبنائها، ومن بعض قيادات اليسار الذين كانوا أول مَن بادر إلى النفخ من أرواحهم في رموز النظام نفسه. أحيوا العظام وهي رميم، "محاربةً للرجعية". في حقيقة الأمر، لم يأتِ هؤلاء بدعة، إنما أحيوا سنّة دأبوا عليها من قديم، وتفرغوا لها مع قدوم بن علي، حين انكبّوا على التنظير لأبشع الأطروحات استئصالية. كانوا، في هذه المرة، يكافحون ضد الالتفاف على الثورة والغدر بها، وذلك ما شرّع لاستئناف التحالف المصيري، حسب زعمهم.
ولكن، يبدو أن "النهضة" لم تنصت، هذه المرة، إلى تلك العواطف المتأججة، مستعدة لدفع ثمن باهظ، تعلم أنها ستتداركه في ما بعد، أصغت جيداً إلى وصفات النجاح المقدمة (ويقول بعضهم إنها مُملاة) ببراغماتية صادمة. لم يكن الأمر مفاجئاً، فمنذ قبلت "النهضة" بالانخراط في الحوار الوطني، أقدمت على إعادة تشكيل عقلها السياسي الحركي، على نحو يصيب قواعدها بصداع دائم أو نصفي. فحالة الحصار غير المعلن على تجربتها وهي في الحكم وأخطاء الأداء السياسي أو تعثّره، دفعاها إلى هذا السلوك السياسي المستجدّ من أجل إرباك التحالف المُعلن بين اليسار وبقايا النظام السابق، داخل حزب نداء تونس وفي جبهة الإنقاذ. رأينا كيف قادت الحماسة "النهضة" إلى إنجاز مهماتٍ، أجمع الرأي العام على نُبلها، باعتبارها من استحقاقات الثورة: تطهير القضاء والإعلام ومحاسبة مَن تورّطوا من رجال الأعمال في نهب المال العام، ومعاقبة مَن تورطوا في التعذيب والقتل. لكن، ما إن همّت بالخطوات الأولى، حتى تحوّلت تلك المهام إلى "مهام قذرة". ورأينا كيف اصطفّت جمعيات وجلّ منظمات المجتمع المدني، دفاعاً عن هؤلاء بالذات. أصرّ بعضهم، نكاية في "النهضة" و"الترويكا"، على تبرئة هؤلاء بالذات، بل وصنع أبطال جدد منهم.
يبدو أن حركة النهضة استوعبت الدرس من ذلك، ورفضت أن تكون منديلاً ينظّف به الجميع ما يرونه أدراناً، ثم لا يلبثوا أن يرموه ممجوجاً. هل كان ذلك مجرد ذكاء سياسي، فيه من القراءة السديدة ما ينجي من مخاطر التلعثم وزلات اللسان؟ أم كان ذلك انصياعاً لقراءة نصٍّ تمت كتابته خارج الفصل؟ الترجيحات غير مهمّة، ولكن، يبدو أن هذا سيمثّل قطيعة في العمل السياسي داخل "النهضة"، ما يجعلها أقرب إلى الأحزاب البراغماتية في التخلّص من رداء العقائدية الذي اكتست به ردحاً طويلاً، وسيكون ذلك لا محالة مؤلماً لعديدين.
يشعر كثيرون بأن النهضة خذلتهم، وكان الأمر سيهون عليهم لو عاد رموز النظام السابق للتنافس السياسي، بعد انطلاق مسار العدالة الانتقالية. ولا شك، أيضاً، أن جرعة المرارة سيكون مقدورا على بلعها، ولو على أقساط، لو اعتذر هؤلاء، وتخلّوا عن رعونتهم المستفزّة.
كشف اللاعبون أوراقهم، وانخرطنا في التخمين عن الدواعي، وتم ترحيل النظر قسراً عن النتائج، ولكن، لن نعثر على كل النوايا الحقيقية التي دفعت معظم نواب "النهضة" إلى التصويت على إسقاط فصل العزل، لأنها مهرّبة في أماكن قصيّة، لكن الظاهر أن القناعة السياسية، المتشكلة على وقع الصعوبات والخيبات، أو التي يتم التنظير لها على عجل، هي التي فرضت ذلك.
ستكون التداعيات خطيرة، لأنها ستؤذن بإعادة تشكيل الخريطة السياسية، ولربما التحالفات، بما لا يجعل "النهضة" تقف مقابل الجميع، وربما يفجّر ذلك غابة من أسباب فك الارتباط بين بقايا النظام السابق من تجمعيين ودستوريين وبين اليساريين، ولو إلى حين، وقد تقوم اشتباكات بينهما، ما يخفّف الطوق على "النهضة"، وهي تتهيأ لانتخابات لا تشبه سابقتها.
تريد المعارضة، وأساساً اليسارية منها، أن تأكل الثوم بفم "النهضة"، وتعلم الأخيرة أن الرائحة ستعلق بها، وقد يكلفها ذلك بعض أسنانها، وإلى الأبد.